مقالات

خطاب أحمد عرابي لمجلة الهلال .. الجزء الثاني

في ٧ رجب سنة ١٢٩٦ هجرية صار خلع المرحوم إسماعيل باشا وتولية المرحوم توفيق باشا، وشاهدت الاحتفال بتوديع الخديوِ المخلوع منفيًا إلى بلاد إيطاليا، فانظر إلى آثار قدرة الله تعالى واعلم أنه يكال لك بالكيل الذي تكيل به.

وعلى هذا انتهت مدة ولاية إسماعيل باشا ولم أنل منه رتبة ولا نيشانًا، ولا اختصني بجارية من جواريه ولا أصبت منه خيرًا قط، ولا أقسمت على الدفاع عنه –كما ذكرتم– ولا خدمت معيته أصلًا، ولا انتهرني أبدًا ولا صحت حول سرايه، ولا قال عني ما ذكرت أن صوتي أكثر قعقعة أو قرقعة من الطبل وأقل نفعًا منه.

وقد تحملت مدة ولايته بكل صبر وثبات جأش على تحمل الظلم والاستبداد بل الاستعباد، ومكثت برتبة القائمقام ١٩ سنة، وأنا أنظر إلى اليوزباشية والملازمين الذين كانوا تحت إدارتي، وقد صار بعضهم أميرلايًا وبعضهم أمير لواء وبعضهم أمير الأمراء، أعني باشوات وفرقاء، وانهمرت عليهم سحب الإنعامات والإحسانات فاقتطعوا الاقتطاعات الواسعة وأخذوا القصور العالية وأغدقت عليهم الخيرات.

ولقد اجتهد صاحب الدولة حسين كامل باشا إذ ذاك في ترقيتي إلى رتبتي أميرالاي، لكن لم يقبل منه، وأخيرًا قال لي: “إني بذلت ما في وسعي في طلب ترقيتك ولكن قيل لي إنك من رجال سعيد باشا”، فعجبت لذلك وقلت له إني من رجال الوطن وبلدي اسمها هربة رزنة بمديرية الشرقية، ولست مملوكًا لأحد.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

فشكرت له وخرجت وأنا أشعر بأني لا أنال خيرًا في مدة أبيه، وكنت أتوسم كل خير في المرحوم توفيق باشا، ولكن من اعتمد على غير الله سبحانه وتعالى أخلاه الله منه لأنه غيور على عباده المؤمنين.

لما تولى المرحوم توفيق باشا مسند الخديوية وحضر إلى الإسكندرية، أحسن عليّ برتبة أميرالاي على الألاي الرابع، فتوجهت إلى رأس التين وقدمت تشكراتي وامتناني إلى حضرته الكريمة ودعوت له بخير، ثم جعلت من ضمن ياوران الخديوِ، ولما صار المرحوم عثمان رفقي باشا الشركسي ناظر الجهادية في وزارة مصطفى رياض باشا، واستبدوا بالإدارة لا يسأل كل من النظار عما يفعل في إدارته، واستخفوا بأمر الخديوِ كل الاستخفاف وخصوصًا عثمان رفقي لجهله وعجبه.

خيلت له نفسه أن يمنع ترقية المصريين من العسكر العامل في الألايات، والاكتفاء بما يتخرج في المدارس الحربية، وصدرت أوامره بذلك، ثم أردفها بإحالة عبد العال حلمي بك أميرالاي السودان على ديوان الجهادية ليكون معاونًا، وكان عمره إذ ذاك أربعين سنة ليس إلا، ورتب بدله خورشيد نعمان بك من جنسه على الألاي المذكور، وكانت سنه إذ ذاك فوق الستين وهو ضعيف لا يقدر على الحركة العسكرية، وبرَفت أحمد بك عبد الغفار قائمقام السواري، وترتيب شاكر بك طمازة من جنسه بدله وهو طاعن في السن، ثم ختمت تلك الأوامر وصار قيدها بدفاتر الجهادية.

كنت لا أعلم بشيء من ذلك أصلًا، وإنما دعيت إلى وليمة وسماع تلاوة القرآن الكريم بمنزل المرحوم نجم الدين باشا، لمناسبة عودته من أداء فريضة الحج الشريف، ولما وصلت إلى منزل الداعي وجدته غاصًّا بالذوات العسكرية وغيرهم، فجلست بجوار المرحوم نجيب بك وهو رجل كردي الأصل وبجانبه المرحوم إسماعيل كامل باشا الفريق وهو شركسي الأصل، ولكنه يتظاهر بحب العدل والإنصاف، فأخبر نجيب بك بما صار وأنه نصح ناظر الجهادية بالإعراض عن هذا الإجهاض فلم يصغِ لقوله، ولهذا فهو ساخط ومضطرب.

ثم أخبرني نجيب بك بحقيقة الحال همسًا في أذني، فقلت لإسماعيل باشا كامل أحق هذا؟ فقال نعم وأعطيت الأوامر إلى الكتيبة للإجراء على مقتضاها، فقلت له إن تلك لقمة كبيرة لا يقوى ناظر الجهادية عثمان رفقي على هضمها.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وبعد تناول طعام المأدبة حضر لي أحد الضباط وأخبرني بأن كثيرًا من الضباط ينتظرونني بمنزلي، وفيهم عبد العال بك حلمي وعلي بك فهمي، فأسرعت إليهم وهم في هاج عظيم، وقد بلغهم صدور أوامر ناظر الجهادية قبل إرسالها إليهم، فلما رأوني أخبروني بما سمعته من المرحوم إسماعيل باشا كامل.

– فقلت لهم: قد سمعت من غيركم فماذا تريدون؟

– فقالوا: إنه ليس ذلك فقط، بل إنه قد كثر اجتماع الشراكسة بمنزل خسرو باشا الفريق، صغيرًا وكبيرًا، وهم يتذكرون في تاريخ دولة المماليك في كل ليلة بحضور عثمان رفقي باشا، ويلعنون حزبك ويقولون قد حان الوقت لرد بضاعتنا، وأنهم لا يغلبون من قلة وظنوا أنهم قادرون على استخلاص مصر وامتلاكها كما فعل أولئك المماليك.

– فقلت لهم: وماذا تريدون إذًا؟

– فقالوا: إنما جئناك لأخذ رأيك فيما دهمنا من الخطب العظيم.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

– فقلت لهم: أرى أن تطيبوا نفوسكم وتهدِّئوا روعكم، وتعتمدوا على رؤسائكم وتفوضوا لهم النظر في مصالحكم، وهم ينتخبون لهم رئيسًا منهم يثقون به كل الوثوق ويطيعون أمره ويحفظونه بمعاضادتكم.

– فقالوا كلهم: قد فوضنا إليك هذا الأمر، وليس فينا من هو أحق به وأقدر عليه منك.

– فقلت لهم: لا انظروا غيري، وأنا أسمع له وأطيع وأنصح له جهدي.

– فقالوا: لا نبغي غيرك ولا نثق إلا بك.

– فقلت: ارجعوا لأنفسكم فإن هذا أمر عصيب، لا يسع الحكومة إلا قتل من يقوم به أو يدعو إليه.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

– فقالوا: نحن نفديك ونفدي الوطن بأرواحنا.

– فقلت لهم: أقسموا على ذلك!

فأقسموا.

يتبع…

اقرأ أيضاً: 

الجزء الأول من المقال

الجنون العظيم

توفيق الحكيم من فنان الفرجة إلى فنان الفكر

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د. عمرو أبو الحسن المنشد

مدرس أمراض الصدر كلية الطب – جامعة أسوان

مقالات ذات صلة