العقل المتسامح .. خصائص وتجارب – الجزء الرابع
كانت تجربتي مع الهيئة القبطية الإنجيلية، التي شرحت طرفًا منها في المقال السابق، من التجارب التي رأيت التسامح يولد فيها أمام عيني، وسمعت صوته موزعًا على الأصوات كلها التي كانت حريصة على المشاركة في النقاش بحثًا عن نقاط التقاء. ورغم أنه لا يمكن الزعم أن من شاركوا في هذه التجارب كلهم قد تخلوا تمامًا عما كان يعشش في أذهانهم ونفوسهم قبل أن ينخرطوا فيه، فإني متأكد، ليس شاهدَ عيان إنما مشاركًا أو منخرطًا تمامًا، أن هذه التجربة تركت بصمتها على أذهان المشاركين ووجدانهم.
أستدل مبدئيًا على هذا التأثير بما رأيته بعينيَّ من تحول في الخطاب والتصرف لدى هؤلاء الذين مروا بهذه التجربة، أو سنحت لهم هذه الفرصة، ويمكن لكثير من القائمين عليها أن يقدموا شهادة ناصعة بشأنها. لكن بناء برهان أكثر رسوخًا يستحق دراسة أكبر، يمكن لمن يعدها أن يلتقط عينة ممثلة من هؤلاء، أو حتى تشملهم جميعًا، لا سيما من منتجي الخطاب الديني، لنعرف حجم التأثير واتجاهه، وبذا نقف على مدى جدوى التجربة وكيف يمكن أن تكون أكثر فاعلية في المستقبل.
نعم، أتاحت عودة كثير من هؤلاء للمشاركة في لقاءات تالية فرصة لنعرف، لأول وهلة، أن هناك تغيرًا إيجابيًا طرأ على أفكارهم، لكن هذا ليس كافيًا، فربما هناك من يبدي تكيفًا مع هذا المحيط الاجتماعي المؤقت فيظهر عكس ما يبطن، أو بمعنى أدق لا يظهر ما يبطنه كله، فيتحدث ويفعل ما يوافق الحال محتفظًا بآرائه الحقيقية لنفسه. ومن ثم فإن متابعة أكثر عمقًا، عبر دراسة ميدانية، تصبح عملًا مهمًا ومفيدًا في هذا المضمار.
ثقافة التسامح وقبول الآخر
كما أن مثل هذه الدراسة ستبين أيضًا ما إذا كان الهدف الأوسع لمثل هذه اللقاءات قد تحقق أم لا، فمنتجو الخطاب والدعوة الدينية الذين يشاركون هم ممن يتحدثون في الناس أو يعظون ويرشدون إلى ما يرونه العمل الصالح، وبذا فإن ما التقطوه من أفكار واقتنعوا به سينقلونه إلى من ينصتون إليهم، وبذا ستتابع دوائر التأثير. كما أن هؤلاء –بخاصة في الريف– لهم دور في تحقيق الوئام أو السلام الاجتماعي، وكثيرًا ما يتدخلون في فض المنازعات التي تنشب من آن إلى آخر لأسباب دينية، أو غير ذلك لكن تُسحَب على الطائفية، فإن كانوا هم أنفسهم قد تعلموا فضيلة الحوار والبناء على المشترك والتقليل من التأثير السلبي للمختلف عليه، فمن دون شك سيساعدون كثيرًا على جذب الآخرين إلى التفاهم، بل إن اتفاقهم وتوافقهم في حد ذاته يضرب مثلًا ناصعًا في هذا الاتجاه، ويشجع الأغلبية على أن تحذو حذوهما، أو على الأقل تنصت إليهما في إمعان.
هناك بالطبع تجارب مشابهة عدة أنجزتها مؤسسات المجتمع المدني المصري، لا سيما في السنوات العشر الأولى من القرن الحادي والعشرين، تحت لافتات “قبول الآخر” و”ثقافة الحوار” و”حقوق المواطنة وواجباتها”، لكن أيًا منها لم يكن بهذا التتابع والتكثيف والخضوع لتصور متماسك وفق منهج شارك في صياغته عدد من الخبراء المتعاونين مع برنامج “حوار الثقافات” بالهيئة القبطية الإنجيلية، وصنع مسارًا جديرًا بالنظر والتقدير، لكل من يريد أن يؤسس لتفاهم أو تسامح طوعي، تنسج خيوطه على مهل، فيكون أبقى وأبهى.
مقالات ذات صلة:
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا