فن وأدب - مقالاتمقالات

استشراف الجمهورية الجديدة في أدب توفيق الحكيم

وددت لو طال العمر بتوفيق الحكيم حتى يقدم أفكاره وأحلامه التي أراد أن يبني عليها الجمهورية الجديدة؛ جمهورية ما بعد التحرر من الإنجليز، ويعرض نداءاته التي نادى بها في أدبياته العالمية على ألسنة شخصياته المسرحية والروائية.

تلك النداءات التي تمحورت حول الحرية والعدل والكرامة الاجتماعية، وهي التي ينادي بها أبناء الشعب في كل أزمة تواجههم، وقد سبق بها الحكيم فرأيناه ينادي بالأمان الاقتصادي في مسرحيته “الطعام لكل فم”، فيقول: ثقي يا نادية أنا مشروعي هذا هو العدالة، العدالة كما يفهمها عصر الذرة وعصور الغد، عصر الطعام وإلغاء الجوع!”.

أيضًا ينادي بالعدل في مسرحيته “السلطان الحائر” التي صدّرها بقوله: “هل حل مشكلات العالم في الاحتكام إلى السيف أو إلى القانون؟ في الالتجاء إلى القوة أو إلى المبدأ؟ إن أصحاب السلطان –ممن يملكون تقرير مصير البشر– يقفون الآن وفي يمناهم القنبلة الذرية أو الهيدروجينية، وفي يسراهم القانون أو المبادئ، في جانب القواعد الصاروخية، وفي الجانب الآخر هيئة الأمم، وهم حائرون خائفون لا يدرون، أو هم لا يجرؤون على اتخاذ القرار الحاسم: أيهما يطرحون وأيهما يستبقون؟”، وفيها يصل بالسلطان إلى اختيار العدل بعبارته الشهيرة: “القانون! اخترت القانون!”.

كذلك ينادي بالكرامة في مسرحيته “الرجل الذي صمد” وفيها يقول: “هل قيمتنا في شخصيتنا أو في السيارة؟ وهل فضلنا في خلقنا أو في المحفظة؟ وإذا انحط مجتمع إلى هذا الدرك الذي يجعل فيه “للجماد” سلطة الحكم على “الإنسان” فلا خير لحياة البشر”.

تلك أهم نداءات الحكيم التي أمل ببزوغ فجرها، وهذا ليس بمستغرب على رجل أفنى حياته في خدمة بلده وفنه، فما اهتم الحكيم في أدبه اهتمامه بقضايا وطنه ومصير شعبه، إذ تفتحت عيونه فوجد محبوبته مصر محتلة من بريطانيا منذ عام 1882م.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

هذا الاحتلال الذي جثم على صدرها سبعين عامًا فعل فيها الأفاعيل النكر، وعانى منه الشعب كثيرًا ووصل تحمله إلى أقصى درجات المعاناة الإنسانية، إذ نُفي أبطاله وسُجنوا وشُردوا هم وذووهم، ونهبت خيرات بلاده وحرم أبناؤه ثوابها، وتآمر الخائنون والمرتزقة مع الإنجليز في هذا العدوان، ودفع هذا الشعب ثمن هذا التآمر.

عزم الأبناء المخلصون من هذا الشعب على تطهير أرضهم من المحتل، والقضاء على أذنابه، فجاهدوا في سبيل حريته، وتعددت أنواع جهادهم بتعدد فئاتهم، فثار الثائرون، وكتب المبدعون، واجتمعوا على كلمة سواء وهي الحرية.

فكان لا بد أن يبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من فجر الحرية وينتشر الضوء في سماء الوطن، ويُحرَّر الشعب المظلوم من القيود التي كُبل بها، وذاك بعد أن قدّم الأبطال أرواحهم فداء لوطنهم وحريتهم، وبعد أن تضافرت الكتابات التي ألهبت شعلة الحماسة داخل النفوس الأبية.

شارك “الحكيم” المصريين كفاحهم المستمرّ ضد المحتل، ومن الطبيعي أن نجد بواكير أعماله تدور حول فكرة الحرية التي يكافح من أجلها المصريون جميعًا.

بدأ كفاحه مبكرًا يوم أن انخرط بين جموع المتظاهرين في ثورة مصر عام 1919م، وقد حكى عن نفسه في سيرته “سجن العمر” كيف كان يقوم بتأليف الأناشيد الحماسية: “وهكذا انتهت الحرب الأولى، ولم يمض قليل حتى قامت ثورة 1919 واشتعلت مصر، ويدهشني أني لم أتجه يومئذ إلى الخطابة أو كتابة المنشورات، مثل بعض زملائي ومعارفي، فقد كان اتجاهي إلى تأليف الأناشيد الوطنية الحماسية، وأحيانًا كنت ألحنها بنفسي مسترشدًا في التلحين بأنغام تلك الموسيقى الجنائزية التي كانت تعزفها فرقة حسب الله “الأصلي” أمام نعوش ضحايا المظاهرات”.

ثم وجدناه يقدم مسرحية “الضيف الثقيل” التي رمز بها إلى المحتل، غير عابئ بما يلاقي من عداوة هذا المحتل، وعنها يقول في سيرته “سجن العمر”: “كانت أول تمثيلية لي في الحجم الكامل تلك التي سميتها “الضيف الثقيل”، أظن أنها كتبت في أواخر سنة 1919م لست أذكر على وجه التحقيق، كل ما أذكر عنها –وقد فقدت منذ وقت طويل– أنها كانت من وحي الاحتلال البريطاني، وأنها كانت ترمز إلى إقامة ذلك الضيف الثقيل في بلادنا دون دعوة منا، ودون رغبة منه في الانصراف عنا”.

ثم انطلق في فنونه الأدبية موظفًا أدبه وفنه للدفاع عن حرية وطنه وحق شعبه، فقدم عديدًا من الأفكار النضالية والمواقف الأدبية حتى تكون مقاليد أمور مصر بيد المصريين لا بيد المحتل.

الحكيم في هذا ليس بدعًا من الأدباء الذين عاشوا تلك الفترة من تاريخ مصر التي كانت ترزح تحت وطأة الاحتلال الإنجليزي، فقد صاغوا أفكارهم في أثواب روائية ومسرحية، وقدموها في أعمال فنية إلى الشعب حتى تحقق الهدف المنشود والأمل المعقود.

اتجه الحكيم نحو المجتمع موقنًا بنظرية التأثير والتأثر، مشيرًا إلى أن الأدب الحقيقي ولا سيما المسرحي منه هو ما يجد فيه المتلقون ذواتهم وحياتهم، وعندما نستعرض نتاجه الفني نجد أنه استطاع أن يعرض في أجزائه الغالبة الموضوعات الوطنية التي تصف طبيعة الشعب المصري المتوارثة منذ أجداده الأقدمين، من حيث إنه لا يستنيم ولا يخضع لغاصب، فهو يصبر ما يصبر لكنه يلبي النداء متى جاء المخلص الذي يخلصه من براثن المحتل، فنجد أدبه نداءً للمصريين الأحرار، لهذا يمكننا أن نصف الحكيم أنه من المبشرين الأوائل بالتحرر من الاحتلال وظلمه.

وقد سجل “الحكيم” موقفه الوطني في أعمال عدة منها: “شهر زاد، وبراكسا أو مشكلة الحكم، وشجرة الحكم، والملك أوديب، وإيزيس، والصفقة، والسلطان الحائر، ويا طالع الشجرة، الطعام لكل فم، وسجن العمر، والورطة، وبنك القلق، وميلاد بطل، والضيف الثقيل…”.

لكن تبقى روايته “عودة الروح” أهم أعماله التي تسجل موقفه الوطني، فتلك الرواية كان لها دور ريادي في استباق الأحداث السياسية، واستشراف المستقبل الوطني، إذ ألهبت حماسة الجموع المصرية للخروج على المحتلّ، واستنهضت همم الشباب المصري للقيام بدوره الذي تنتظره “مصر” منهم، فكان أن خرج جيل لم يعد يطالب بالحقوق المصرية، بل طبق تلك الحقوق على أرض الواقع، وطرد المحتلّ واستردّ “مصر” لبنيها.

رأيناه في هذه الرواية يبشر بقرب ظهور البطل الذي طال انتظاره، ليحقق المعجزة التي ستنقذ الناس من براثن الاحتلال، ويحرر وطنه وشعبه، فقد جاء فيها على لسان عالم الآثار الفرنسي مخاطبًا الطبيب الإنجليزي: “أجل يا مستر بلاك! لا تستهن بهذا الشعب المسكين اليوم، إن القوة كامنة فيه، ولا ينقصه إلا شيء واحد! ينقصه ذلك الرجل منه الذي تتمثل فيه كل عواطفه وأمانيه، ويكون له رمز الغاية، عند ذاك، لا تعجب لهذا الشعب المتماسك المتجانس المستعذب، والمستعد للتضحية، إذا أتى بمعجزة أخرى غير الأهرام”.

من هنا كان “جمال عبد الناصر” يعد الحكيم الأب الروحي لثورة يوليو 1952م. وبعد أن تم ما سعى إليه الحكيم من تحرر مصر واستعادة أمرها، وقف بجانب شعبه مناقشًا القضايا التي تنهض بالجمهورية الجديدة، وبدأ يمارس دور الفنان الذي وصفه بقوله: “الفنان لا بد أن يكون له وجهة نظر في الحياة، وفي الناس، وفي الأفكار. الفنان ليس مجرد متفرج، إنه متفرج وصانع لمجتمعه في آن واحد، وأنا أعشق الفن”.

هذا هو الدور الذي يقوم به المبدعون تجاه أوطانهم وشعوبهم، لذا عمل الحكيم على بعث الشخصية المصرية الأصيلة من جديد، لتستمد من جذورها وتاريخها وثقافتها المتلاحمة ما تقوّم به حياتها، فأمّل بتلك الشخصية التي تبني ولا تهدم، تعمر ولا تخرب، تساند دولتها ولا تعادي تقدمها، لذا نراه يقول معقبًا على مسرحية “إيزيس”: “هذا العمل ليس بسطًا للعقائد المصرية القديمة، بل إبراز أشخاص الأسطورة إبرازًا جديدًا إنسانيًا، وتخريج معناها على النحو المفهوم الحي في كل”.

مقالات ذات صلة:

الأديب سعيد نوح ولعبة التجريب الدائم

أنطونيو غالا

تحايل نجيب محفوظ

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د. عبدالله أديب القاوقجي

مدرس بكلية اللغة العربية جامعة الأزهر