مقالات

هل يمكن تفسير السلوك على أنه نتيجة لبرامج مخزنة في المخ؟ .. الجزء الخامس

برامج السلوك: فكرة جديدة لتفسير السلوك - "ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء"

عرضنا في المقالة الأولى قرائن قد تتيح لنا أن نفرض إمكانية أن يكون السلوك راجعًا إلى تشغيل برامج في المخ تشبه برامج الكمبيوتر التي نعرفها، وعرضنا في المقالة الثانية بعض تطبيقات تفصيلية لهذه الفكرة على بعض أنواع السلوك الفردي والجماعي.

في المقالة الثالثة حاولنا النظر إلى بعض من أهم النظريات المعروفة في علم النفس من وجهة النظر الكمبيوترية، إذا جاز التعبير! وفي المقالة الرابعة عرضنا تصورًا لمنظور السلوك عبر الوعي (المنظور الواعي)، ومنظور السلوك عبر البرامج الإشرافية (المنظور الإشرافي).

في هذه المقالة سنعرض بعض المفاهيم المرتبطة بفكرة المنظور الواعي والمنظور الإشرافي كما وردت في المقالات السابقة.

قوانين السرور والألم

الألم والسرور يصبان نهائيًا في الذات، فأنا الذي يتألم وأنا الذي يُسَر، والذات تسكن الجسد ويحيط بها الواقع المادي والآخرون، والألم والسرور الماديان يصلان إلى الذات عن طريق الجسد:

منبه     طريق عصبي        مركز المخ     ألم أو سرور

اضغط على الاعلان لو أعجبك

مركز المخ يحدد ما يسر وما يؤلم طبقًا لقوانين مركبة فيه، فدرجة حرارة معينة مثلًا تمثل السخونة المؤلمة بالنسبة إلى شخص ما، أما الألم والسرور النفسيان فقد يأتيان من سلوك الآخرين:

سلوك الآخرين          تفسير العقل لهذا السلوك        ألم أو سرور

مثلًا إذا وجه لنا شخص الشتائم في أثناء تمثيلنا لمسرحية فلن نغضب، لأننا نعلم أن هذا تمثيل، بينما لو حدث ذلك في ظروف الحياة العادية فإننا سوف نعتبرها إهانة وسنتألم منها، والتألم من الإهانة ليست له طبيعة الألم الجسدي بل إنه يرتبط بطبيعة الذات، فمن طبيعة الذات أنها تتألم لقلة قدرها إزاء الذوات الأخرى.

نلاحظ أن رد الفعل النفسي للإهانة يختلف باختلاف الظروف، فقد نغضب جدًا إذا كان بإمكاننا الرد على من أهاننا، وقد نكتفي بالحزن إذا لم يمكننا الرد، وفي الحالتين نكون مقتنعين بموقفنا.

تفسير ذلك أن المنظور الإشرافي يختار لنا الانفعال المناسب لقدراتنا وللمواقف التي نواجهها.

قد ينفذ المنظور الإشرافي هدفه من منظور واعٍ سطحي، فيوحي إلى المنظور الواعي مثلا بفكرة التسامح والصبر في حالة تفوق من أهاننا، في حين أننا قد لا نتحمس لمثل هذه الفكرة في حالة ضعف من أهاننا، وتحل محلها فكرة ضرورة الرد على الإهانة، ولا يلاحظ المنظور الواعي الفرق بين الحالتين بل يظن أن كلًا منهما أمر طبيعي. من القوانين التي تحدد ما يسر الذات عن طريق الآخرين:

  • ندية الذات للذوات الأخرى أو تفوقها عليها.
  • وجود الذات بين ذوات أخرى تأنس بها.
  • تعرض الذات لعناية الذوات الأخرى بها.
  • رغبة الذوات الأخرى في بقاء الذات معها.

بالطبع فإننا إذا عكسنا هذه القوانين فسنجد أشياء تؤلم الذات، مثل عدم المناددة والإهمال والنبذ.

هذه القوانين السابقة تحكم ما يحدث للذات من ألم أو سرور نفسيين نتيجة لتعرض الذات بصفتها الفردية لأحداث معينة من الذوات الأخرى.

تحكم قوانين ما يحدث من ألم وسرور نفسيين للذات، نتيجة لتعرض الجماعة التي تنتمي إليها الذات من الجماعات الأخرى، والذات يهمها ما يحدث للجماعة التي تنتمي إليها لأنه ينعكس عليها، فكل ما يحدث للجماعة ينتسب تلقائيًا لكل فرد فيها. مما يسر الذات بخصوص جماعتها إزاء الجماعات الأخرى المماثلة:

  • أن تتفوق جماعتها على الجماعات الأخرى.
  • أن تكون النظم السائدة داخل الجماعة مؤدية إلى مزيد من القوة والقدرة على تحقيق أهداف الجماعة.

بعض قوانين السرور والألم موروث، وبعضه قد يكون مكتسبًا عن طريق العادة مثلًا.

القوة

القوة معنى مجرد يسر الذات امتلاكه، ويعمل المنظور الإشرافي على تحقيقه لها، وذلك لأن القوة تحقق للإنسان التفوق والأمن من العدوان والقدرة على الحصول على احتياجاته.

يمكن تعريف القوة أنها “القدرة على التأثير على الواقع”، والقوة تحكم كثيرًا من قوانين السرور بالنسبة إلى الذات إزاء الذوات الأخرى، إذ إن الذات تسعى باستمرار إلى المناددة والتفوق على الذوات الأخرى، ومن ثم تسعى إلى امتلاك القوة، فالقوة مجال المناددة والتفوق بين الذوات، أي أن الذات لا تهتم فقط بأن تكون قوية بل تهتم بأن تكون أقوى، وقد استخدم نيتشه فكرة القوة لكنه عممها هدفًا نهائيًا وحيدًا للسلوك الإنساني. من عناصر القوة:

  1. القدرة البدنية.
  2. الخبرة العملية.
  3. الصمود العصبي.
  4. المال.
  5. العلم.
  6. النفوذ.
  7. القدرة على العطاء النفسي.
  8. الاستغناء عن الآخرين.
  9. القدرة على جذب الجنس الآخر.

القدرات الشخصية

سبق لنا تعريف القدرات الشخصية بأنها الأدوات التي يملكها الإنسان ويمكنه بواسطتها التأثير على الواقع، لكي يحقق لذاته السرور ويجنبها الألم طبقًا للقوانين التي تحدد ذلك.

الإنسان لكي يؤثر على الواقع المادي يستخدم عضلاته لتنفيذ القرار المناسب، أما حين يحاول التأثير على غيره من الناس فإنه يلجأ إلى وسائل أخرى، مثل الصوت وأسلوب الحديث وملامح الوجه وإشارات الأيدي، والعطاء النفسي والإيلام النفسي والإيحاء بالأفكار والتودد.

يرجع نوع التأثير الذي تحاول الذات تحقيقه إلى نوع العلاقة بينها وبين الذوات التي تحاول التأثير عليها، فهناك علاقة قرابة الدم وعلاقة الزواج وعلاقة الصداقة والحب بين الجنسين وعلاقة التنافس، وغير ذلك من العلاقات الإنسانية.

المنظور الإشرافي يلعب الدور الأساسي في توجيه القدرات الشخصية في أثناء تلك التفاعلات الإنسانية، أو بمعنى آخر يقوم بإدارة العلاقات الإنسانية.

الأساليب السلوكية

لكل إنسان أساليب سلوكية يمارسها إزاء الأحداث والأشخاص، فهناك شخص يهاجم بسرعة، وآخر قد يتريث أو يتردد، وهناك شخص يميل إلى الاعتداد الشديد وآخر يميل إلى التواضع، وهكذا.

هذه الأساليب يختارها المنظور الإشرافي للإنسان طبقًا لقدراته الشخصية وللظروف المحيطة به، فهي أساليب انتقائية وظيفية قد تثبت أو تتغير إذا تغيرت القدرات الشخصية للإنسان أو الظروف الخارجية حوله.

يحكم المنظور الإشرافي على القدرات الشخصية للإنسان مثلًا بعد أن يخوض تجارب معينة ناجحة أو فاشلة، فالمنظور الإشرافي يختار درجة الاعتداد –كما ذكرنا– طبقًا لما يملكه الشخص من قدرات واقعية، مثل الثروة أو النفوذ، وذلك لأن الدلالة الرمزية للاعتداد طلب الاحترام، والدلالة الرمزية للاحترام أنه نوع أو درجة من الخوف، وبناء عليه فإن الاعتداد يقتضي امتلاك نوع من القوة، لأن القوة تسبب الخوف لما تعنيه من قدرة على الإيذاء.

قد يقول شخص مثلًا: “لكني أحترم أستاذي في الجامعة حتى بعد أن تخرجت ولم يعد له نفوذ علي”، الاحترام في هذه الحالة رحمة ناتجة من الاعتراف بالفضل، أي أن الدلالات الرمزية قد تتعقد وتتداخل ولا تظل على صورتها الأساسية البسيطة.

المنظور الإشرافي قد يختار للضعيف التواضع حتى يتفادى طلب الاحترام بغير قوة، مما يعرضه للسخرية وحتى ينال التقدير لتواضعه.

قد يختار المنظور الإشرافي لصاحبه نوعًا من الانسحاب من بعض المواقف، نتيجة لتعرضه للفشل في مثل هذه المواقف.

المنظور الواعي من ناحيته يعتاد على هذه الأساليب ولا يلاحظ وجودها، بل يعتبرها رد فعل طبيعي، ولا ينتبه إليها إلا عند الخطأ البارز في تطبيقها، مثلما يحدث عندما يعتد الضعيف اعتدادًا زائدًا.

الدلالات الرمزية للسلوك

سبقت الإشارة في أكثر من موضع إلى الدلالات الرمزية للسلوك، وقلنا إن المنظور الإشرافي يعمل عن طريق ما يحمله السلوك من الدلالات الرمزية.

هذه الدلالات الرمزية قد لا يدركها المنظور الواعي اكتفاء بالفهم السطحي المباشر، أما المنظور الإشرافي فهو يدركها بدقة ويتعامل بها كونها لغة مشتركة مع المنظور الإشرافي للآخرين. من هذه الدلالات الرمزية:

  • الاعتداد: طلب الاحترام.
  • الاحترام: نوع أو درجة من درجات الخوف.
  • السخرية: إعلان عن عدم تصديق الادعاء، أو رفض لموقف ما.
  • التواضع: إعلان عن مقاومة الرغبة في إظهار التفوق.
  • التودد: إعلان عن الاستعداد لأداء خدمة لذات أخرى، وهي غالبًا تمهيد لطلب خدمة أخرى.

هذه الدلالات الرمزية كما ذكرنا تمثل اللغة التي يتعامل بها المنظور الإشرافي للإنسان مع المنظور الإشرافي للآخرين.

عمليات نفسية

يقوم المنظور الإشرافي بإدارة ما يمكن تسميته العمليات النفسية لصالح الذات، وذلك مثل:

  • الانتماء الرمزي: يسعى الضعيف إلى الانتماء الرمزي إلى القوي ليشاركه قوته، وذلك عن طريق شيء يربطهما معًا بحيث يتم الانتماء بهذا الشيء المشترك، وذلك مثل العمل أو الصداقة أو الإعجاب أو الحب.
  • الفصل الرمزي: وهي عملية عكسية، فالقوي يسعى لفصل نفسه عمن هو أضعف منه، وذلك مثلًا بالابتعاد أو التبرؤ أو الانتماء إلى جهة لا ينتمي الضعيف إليها.
  • التعالي: موقف تتخذه الذات التي تحس بأن لها تفوقًا ثابتًا على الذوات الأخرى، مثل حالة شخص من طبقة راقية إزاء أشخاص من طبقات أدنى، وهدف هذا الموقف إعلان ذلك التفوق للاستفادة من هذا الوضع لإسعاد الذات.

دلالات الأحداث

كما أن سلوك الإنسان له دلالات رمزية، فإن الأحداث التي تقع حول الذات –سواء كانت الذات طرفًا فيها أو لم تكن– تكون لها دلالات رمزية، يستنتجها المنظور الإشرافي ويحدد على أساسها موقف الذات مما يدور حولها. من أمثلة ذلك:

  • انتصار الذات على الذوات الأخرى في مجال ما يكون له دلالة تفوق هذه الذات.
  • ابتعاد الآخرين عن ذات ما قد يكون له دلالة التعالي عليها أو الانفصال عنها أو الانسحاب من الصراع معها.

المنظور الواعي قد يدرك شيئًا من هذا وقد يفهمه بصورة صحيحة أو سطحية، أما المنظور الإشرافي فهو يفهم هذه الدلالات بدقة ويوجه السلوك على أساس ذلك الفهم.

العمل

لقد وجد الإنسان نفسه دائمًا محتاجًا للعمل، ومن ممارسة العمل تنمو القدرات الشخصية للإنسان وتتطور بصورة تساعده على أداء عمله.

المنظور الإشرافي يشرف على عملية تنمية القدرات الشخصية لتخدم أهداف العمل، فقدرات صاحب العمل البدني تختلف عن قدرات صاحب العمل الذهني، وكذلك فمن يعمل في مواجهة الجماهير غير من يعكف على مكتبه.

التوافق النفسي

اكتساب الذات لقدرات تمكنها من التأثير على الواقع، بحيث تجعله محتملًا أو مسعدًا لها.

الخامة الإنسانية غنية بالاستعدادات، والمنظور الإشرافي يستخرج منها ما يلزم لظروف الواقع ويشرف على تنمية هذه الاستعدادات أو القدرات، أي أن المنظور الإشرافي قائد عملية التوافق.

الجماعة

الجماعة إما أن تكون إجبارية نتيجة لظروف مشتركة لا إرادية، مثل جماعة الأسرة أو الوطن، وإما أن تكون اختيارية مثل جماعة الصداقة.

الإنسان يحتاج دائمًا إلى تكوين جماعات لتحقيق أهداف مشتركة بالتعاون مع الآخرين، ولإرضاء نزعات لديه لا يحققها إلا أفراد آخرون من نفس نوعه، وكذا فالظاهرة الجماعية لصيقة بالظاهرة الفردية في النوع الإنساني.

لكن انتماء الفرد إلى جماعة لا يلغي ولا يوقف قوانين السرور والألم الفطرية الخاصة بذاته، بل إن الجماعة قد تكونت أصلًا لإرضاء هذه القوانين.

الجماعة تتكون لتحقيق غرض ما، وتنفضّ حين ينتهي ذلك الغرض أو حين تفشل في تحقيقه، المنظور الإشرافي يشرف على عملية تكوين وتنمية وفض الجماعات حتى لو كان للمنظور الواعي أحيانًا دور ظاهر في ذلك.

ففي جماعة الصداقة مثلًا فإننا لا نختار أصدقاءنا بوعينا بل نجد أنفسنا نميل إليهم دون أن نعرف سببًا لذلك، وهذا الميل يظهر بإيعاز من المنظور الإشرافي.

لكي تؤدي الجماعة دورها يجب أن يؤدي كل فرد فيها دورًا خاصًا به، الذي يحدد ويخطط هذه الأدوار الفردية اللازمة لقيام الجماعة بدورها هو المنظور الإشرافي.

التقاليد التي تنشأ داخل جماعة ما لا يصنعها الناس بوعي مسبق، بل تنشأ هكذا بينهم ويجدون أنفسهم يوقرونها.

القانون الاجتماعي الذي اكتشفه ماركس مثلًا، وهو نشوء القوالب الثقافية والاجتماعية من ضرورات الإنتاج الاقتصادي، يُنفَّذ بواسطة قرارات يخططها ويصدرها المنظور الإشرافي، إذ إن الناس لا يعون علاقة مكتسباتهم الثقافية بطرق الإنتاج ولا يقررون شيئًا من ذلك بوعي مسبق.

أساليب سلوكية جماعية

كما أن المنظور الإشرافي يختار للفرد أساليب نفسية للتعامل مع الذوات الأخرى، فهو يختار للجماعة أساليب سلوكية جماعية تساعدها على أداء دورها. ومن هذه الأساليب:

  • التقاليد: قواعد سلوكية غير رسمية، لكن الخروج عنها يعرض الشخص للوم الجماعة.
  • العرف: مجموعة من أحكام الثواب والعقاب تتعارف عليها الجماعة وتتوارثها.
  • القانون: في المجتمعات المتطورة يتحول ذلك العرف إلى قانون تضعه الهيئات التشريعية، لكن حتى حين يتحول العرف إلى قانون مصنوع مباشرة ومدون بواسطة المنظور الواعي، فإن المنظور الإشرافي يكون له دوره في تحديد الأفعال التي تُجرَّم، وتحديد العقوبات واختيار وسائلها.
  • الأخلاق: نوع من السلوك يلقى الاحترام والاستحسان من الجماعة، والمنظور الإشرافي يختارها للجماعة لتجنب أنواع من السلوك ضارة بأداء الجماعة لدورها الذي تكونت من أجله.

فمثلا نجد أن خُلُق عدم السرقة هدفه الشعور بالأمن في المجتمع، وليس لأن السرقة في حد ذاتها عيب، بدليل أن مجتمع اللصوص نفسه يشيع فيه نوع من الأمانة، فاللص عادة لا يسرق لصًا مثله! فالأخلاق وظيفية وليست ذات طبيعة مطلقة.

أما الأخلاق الدينية فمبررها المباشر طاعة الله، وحتى هنا فالأخلاق سلوك وظيفي هدفه الثواب، أما القيمة المطلقة فهي موجودة بالنسبة إلى الله وليس بالنسبة إلينا.

رموز سلوكية جماعية

كما أن هناك رموزًا سلوكية فردية للذات تجاه الذوات الأخرى، فهناك رموز سلوكية جماعية يصنعها المنظور الإشرافي لأفراد الجماعة للمساعدة على قيام الجماعة بدورها الذي تكونت من أجله. من هذه الرموز السلوكية الجماعية:

  • الأزياء: فالأزياء المتحفظة مثلًا تلازم عصور الثبات والجمود، بينما الملابس المتحررة تلازم عصور التجديد والتطوير، وقد رأينا من قبل كيف أن تقارب ملابس الرجل والمرأة في العصر الحديث يعكس ما حدث في المجتمع من تقلص سلطة الرجل على المرأة.
  • تقبيل الأبناء ليد الأب: كان هذا السلوك في الأجيال السابقة يناسب سلطة الأب، إذ كان هو القائد الاقتصادي والاجتماعي الأوحد للأسرة.

الحضارة

الحضارة اتجاه شعب –نوع من الجماعات– لبذل الجهد والتفاني لتحقيق منجزات معينة، ولتحقيق التفوق على بقية الشعوب في نواح معينة.

الحضارة من الناحية العملية تطبيق منهج متقدم في الحياة، ومن ناحية الدوافع فهي نوع من التحمس، ولعلها لذلك لا تستمر إلى الأبد في شعب ما، فلا بد أن تهبط فورة الحماس ليحل محلها الفتور والملل، ثم ينتقل الحماس إلى شعب آخر مقبل حديثًا على التحضر، فينقل منجزات الحضارة السابقة ويبني فوقها، لكن دورات الحضارة قد تستغرق مئات بل آلاف السنين.

هذا الحماس الحضاري يقرره المنظور الإشرافي ويبثه في نفوس أفراد الشعب، حينما تتحدد منجزات واقعية يمكن أن يحققها الشعب وعندما تتوافر الإمكانيات العملية لتحقيق تلك المنجزات، فالمنظور الإشرافي لا يأمر إلا بما هو ممكن واقعيًا.

المنظور الإشرافي حين يمارس نشاطه قد يبدأ من الرجل العام كما ذكرنا من قبل، أو قد يبدأ من كل فرد على حدة في نفس الوقت تقريبًا أو على التوالي، بحيث يلحق البعض بالبعض الآخر، تجاوبًا من المنظور الإشرافي لكل فرد مع المنظور الإشرافي لغيره من الأفراد، فتتوحد في النهاية القرارات ويبدو كأن هناك اتفاقية سرية بين الناس أو كأن هناك اتصالًا لاسلكيًا بين عقولهم.

التطور الاجتماعي

الإنسان الكائن الحي الوحيد الذي يتطور اجتماعيًا، فبقية الكائنات تكرر دورة حياتها وأسلوب معيشتها تقريبًا جيلًا بعد جيل، أما الإنسان فكل جيل من أجياله يضيف شيئًا ويجدد شيئًا.

كل جيل ينظر إلى الجيل السابق عليه، وينظر إلى الظروف الحالية التي تتطور بفعل منجزات العقل وتغير طرق الإنتاج وسوى ذلك، ثم يتجه إلى التغيير والتجديد في أساليب حياته.

الذي يقود هذه التغيرات ويخططها هو المنظور الإشرافي، وحتى لو تمت أحيانًا بدور واضح من المنظور الواعي، فالأخير لن يدرك الهدف الدقيق من وراء عملية التغيير، بل ستكون لديه مبررات سطحية ربما يصوغها له المنظور الإشرافي نفسه. من أمثلة تلك التطورات الاجتماعية:

  • إقلاع الجيل الجديد عن أسلوب سلوكي مارسه الجيل السابق، مثل انتهاء عادة تقبيل يد الأب.
  • الانقلابات المذهبية، مثل الانتقال من الكلاسيكية إلى الرومانسية في العصور الوسطى في أوروبا، إذ أحس المنظور الإشرافي بالحاجة إلى الروح الرومانسية بعد أن استنفدت الكلاسيكية أغراضها.

الفن

يصنع الفنان من فنه شيئين أساسين:

  • يصنع جماليات جديدة تختلف عن الجماليات التي اعتاد الواقع أن يقدمها لنا، فهو يصنع الجماليات المتفقة مع تطور الحياة أو يكتشفها ليقدمها لنا، يقوده في ذلك تخطيط المنظور الإشرافي وإيحائه، ذلك المصدر الذي لا ينضب معينه ولا تنفد حيله، لتزويد الإنسان بالقرارات التي تساهم في تطوير أساليب الحياة لمصلحة الذات.
  • يصنع عالمًا جديدًا مختلفًا عن عالم الواقع ليحقق نوعًا من التكيف المجازي المؤقت، ويصدق أو يحاول أن يصدق أن هذا العالم الجديد هو الواقع نفسه، ويحاول دفع المتلقي لتصديق ذلك ليؤكد لنفسه هذا الوهم، فالعمل الفني مهما كان واقعيًا فإن فيه قدرًا من الخيال، وحتى الصورة الفوتوغرافية الفنية يلتقطها المصور من زاوية معينة وفي لحظة معينة بحيث تعطي انطباعًا غير تسجيلي للمشاهد.

هذا العالم الذي يصنعه الفنان يكون أكثر ملاءمة لقدراته الواقعية وميوله وآلامه وآماله، ولذا فهو حين يصدق أنه عالم واقعي ويعيش فيه لفترة من الوقت فإن ذلك يخفف من توتره وقلقه وآلامه، ولذلك ينتج الفنان بحرارة بعد تعرضه للأزمات، ويحس براحة بعد إنتاج فنه.

الذي يحدد ملامح هذا العالم الجديد ومدى تحقيقه للغرض منه المنظور الإشرافي، ولعل ذلك الدور للمنظور الإشرافي في الفن عمومًا ليس بمستغرب، إذ لا يوجد فنان يدعي أنه يصل إلى ابتكاراته الفنية بتخطيط واعٍ سابق، وحتى القدماء لم يخفَ عليهم وجود قوة خفية وراء الفن، فكانوا يتحدثون عن شيطان الشعر.

أما الفنان المزيف فهو يقلد ابتكارات غيره من الفنانين الحقيقيين، أي أنه يستخدم منظوره الواعي في سرقة الابتكارات الفنية للمنظور الإشرافي للآخرين.

الجمال

يمكن تقسيم ظاهرة الإحساس بالجمال إلى:

  • جمال حسي: وهذا الجمال تحكمه قوانين محددة مخزنة في المخ، فبالنسبة إلى تناسق الألوان مثلًا نجد أن هناك قواعد معينة إذا خالفتها جاء التجميع اللوني منفرًا، وكذلك هناك قواعد لتناسق الأصوات والأشكال.
  • جمال نفسي: الانطباع الذي يعطيه الشيء للنفس، نتيجة لاتصافه بصفات تبهر النفس أو تثير تطلعاتها أو تستجيب لميولها أو غير ذلك، فمنظر شروق الشمس لا يعجبنا فيه فقط تناسق الألوان وتعددها، بل أيضًا ما يوحي به من مهابة وسمو وتجدد للحياة، والزهرة لا يعجبنا فيها فقط ألوانها، بل أيضًا ما تحمله من حياة وبساطة وتجدد، ولذا فالأزهار الحية أكثر تأثيرًا من الأزهار الصناعية مهما بلغت درجة إتقان الأخيرة.

الجمال الذي نحسه في الأعمال الفنية في معظمه جمال نفسي من هذا النوع، وإن كان على العمل الفني أن يتماشى مع قواعد الجمال الحسي، على الأقل لكي لا يكون منفرًا، ويلاحظ تميز الجمال النفسي بالنسبية عكس الجمال الحسي الذي تحكمه قواعد شبه مطلقة.

الذي يفهم الجمال النفسي ويترجمه للذات هو المنظور الإشرافي.

الضمير

الضمير تحذير داخلي بأن سلوكنا الحالي الذي يجلب لنا النفع قد يترتب عليه ألم فيما بعد، وطاعتنا لضميرنا تؤدي إلى راحة الأمن على المستقبل، فإذا كان الألم المتوقع سينتج مثلًا من احتقار المجتمع لنا فإن تجنب الفعل المؤدي إليه يعطينا الأمن على وضعنا الاجتماعي.

لكننا مع ذلك وتحت ضغط الظروف كثيرًا ما نخالف هذا الضمير، محاولين أن نخفي ذلك عن الناس أو نبرره لهم أو لأنفسنا، هذه الممنوعات التي قد يترتب عليها الألم في المستقبل قد تكون من الجماعة أو من الدين.

إذا كانت من الجماعة فإن المنظور الإشرافي أصلًا هو الذي يقررها للجماعة كما سبق بيانه، وهو نفسه الذي يحذر الأفراد من مخالفة هذه القواعد الجماعية، ويدفعهم إلى معاقبة من يخرج عنها حرصًا على مصلحة الجماعة، أي أن المنظور الإشرافي مصدر الضمير الاجتماعي والغيرة الخلقية.

أما الضمير الديني فمصدره الإيمان بالله ومن ثم الخوف من عقابه.

بالنسبة إلى المنظور الواعي فهو يرى أن الضمير قوة داخلية ترشده إلى الصواب، ويظن أن ذلك الصواب مطلق ومحدد ومنفصل عن الواقع.

الأمراض النفسية

قد يكون المرض النفسي أحيانًا لونًا من الهروب من الواقع، أو نوعًا من الحل غير الواقعي لمشكلة واقعية، هو بذلك يكون اختيارًا يقرره المنظور الإشرافي للإنسان، حين يعجز عن التخلص من ظروف واقعية تسبب ألمًا غير محتمل للذات.

المرض النفسي، مثل هروب من الواقع المؤلم، ربما كان حلًا يائسًا يلجأ إليه المنظور الإشرافي أخيرًا، كي يحمي الذات من ضعف القدرات الشخصية إزاء هجوم الواقع.

الخاتمة – الحارس

مما سبق نرى أن المنظور الإشرافي –أو مجموعة البرامج الإشرافية الموجهة للسلوك– هو الحارس الأمين على سعادة الذات.

حارس لا يمل ولا يكل ولا تنفد له حيل، وهو يحاول إسعاد الذات طبقًا للقوانين التي تحدد لها ما يسرها وما يؤلمها، وطبقًا لظروف الواقع المحيط بها، وأيضًا طبقًا لقواعد الرموز السلوكية الفردية والجماعية ودلالات الأحداث، وغير ذلك من خصائص علاقة الذات بالواقع.

هو يوجه الإنسان سواء عند انفراده أو عند تجمعه مع سواه، وفي أثناء تطوره من جيل إلى جيل، وهو يوجه أدق وأبسط تصرفات الإنسان، مثل تحريك ملامح الوجه، ويوجه أوسع وأشمل اختياراته، مثل الحماس الحضاري.

إنه صانع الشخصية، وصانع المجتمع، وصانع الحضارة!

تفاعل ظاهرة الإنسان مع ظاهرة الواقع

سوف نضع هنا رسمًا تخطيطيًا يقدم تصورًا لتفاعل ظاهرة الإنسان مع ظاهرة الواقع في ضوء المفاهيم السابقة، وفيما يلي تعريف للمصطلحات المستخدمة بالرسم:

الذات

جوهر الإنسان ومصدر شعوره بالأنا بمعناها الفلسفي، وهي التي تشعر في النهاية بالألم أو السرور، والذات أيضًا مصدر الإرادة.

العقل

الذي يعي الذات ويعي نفسه ويعي الواقع المحيط بالذات، وينقسم إلى:

أ – المنظور الواعي: المنظور القشري الذي نعيش في حدود وعيه الظاهري المحدود وفهمه المباشر السطحي.

ب – المنظور الإشرافي: جزء يعمل بعيدًا عن الوعي، يفكر ويخطط ويقرر ويختار ويدرك بعمق وشمول جميع رغبات الذات سواء الواعية منها أو غير الواعية، ويدرك كذلك بعمق وشمول كل الظروف المحيطة بالذات التي قد تؤثر على تحقيق تلك الرغبات.

النفس

مجال المشاعر والانفعالات.

الواقع

كل ما يدركه العقل سواء خارج الإنسان أو داخله.

القدرات الشخصية

مجموع الأدوات التي يملكها الإنسان، ويمكن بواسطتها أن يؤثر على الواقع ليحقق لذاته السرور ويجنبها الألم، تشمل القدرات البدنية والذهنية والعصبية وسوى ذلك. فيما يلي رسم تخطيطي يوضح العلاقات التي تربط بين هذه المكونات، تلك العلاقات التي تصوغ في النهاية ظاهرة الإنسان مقابل ظاهرة الواقع:

تفسير السلوك الإنساني

المراجع:

1- أحمد عبد الخالق، أسس علم النفس، الإسكندرية، دار المعارف الجامعية، 1989.

2- أحمد عزت راجح، أصول علم النفس، القاهرة، دار المعارف، 1980.

3- عبد الحليم محمود السيد وآخرون، علم النفس العام، القاهرة، مكتبة غريب، 1990.

4- يوسف مراد، مبادئ علم النفس العام، القاهرة، دار المعارف،1980.

5- عبد الرحمن محمد عيسوي، علم النفس.. علم وفن، دار المعارف 1975

6- عبد العزيز القوصي، علم النفس.. أسسه وتطبيقاته التربوية، مكتبة النهضة المصرية.

7- سيجموند فرويد، ترجمة مصطفى زيور وعبد المنعم المليجي، حياتي والتحليل النفسي، دار المعارف 1981.

8- يحيى الرخاوي، من دليل الطالب الذكي في علم النفس والطب النفسي، منشورات جمعية الطب النفسي التطوري 1980.

9- سيجموند فرويد، الموجز في التحليل النفسي، ترجمة سامي محمود علي، عبد السلام القفاش.

إن الرؤية الجديدة في مجال العلوم الإنسانية –ولعلها في كل العلوم– لا تهدم ما قبلها من نظريات، لكن تحاول إعادة صياغته طبقًا لما تكشف للإنسان من معلومات جديدة عن ذلك العالم الغامض الذي يعيش فيه.

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

م. مصطفى جاد الكريم

مهندس نووي ، شاعر وكاتب