مقالات

تجديد الخطاب الفكري – الجزء السادس

بعد العرض السابق لمقدمات تجديد الخطاب الفكري، باستعراض أدوات ومناهج المعرفة المختلفة، نصل هنا لعرض ملامح التجديد الفكري وفق التعريف السابق ذكره بأن المقصود بالتجديد:

آليّات التفكير والتوجّه العقلي ليعبر عن المنهجية الأساسيّة لكلِّ نظامٍ معرفي ومنظومةٍ فكريّة، والتي من شأنها التعبير عن نظريّةٍ أو موقف أو أحد جوانب الفكر، حيث إنّ المعرفة هي الغاية القصوى للمساعي البشريّة والمسار الطبيعي لوجودها،

فعندما نتحدث عن قضية ما بطريقة عقلية يجب علينا أولا أن يكون تعريف العقل محددًا لدينا سابقا، وأن يكون هذا التعريف نابعا من قدرة وحدود العقل وتقديم الدليل على ذلك، والقضية التي نتحدث عنها تقع تحت حدود تلك القدرة العقلية التي تستطيع أن تكشف لنا حقيقة تلك القضية كشفًا واقعيًّا مطابقًا للواقع،

كذلك الحال عندما نتناول قضية علمية مرتبطة بالواقع المادي تقع تحت حدود الحواس والمنهج التجريبي السليم، وينطبق الحال على القضايا الغيبية، ومن ثم يجب تحديد دور النص الديني وقدرته على التعامل مع تلك القضية من خلال قدراته وإمكانياته التي تكشف لنا حقيقة تلك القضية كشفًا حقيقيًّا وواقعيًّا، هذا هو التجديد على المستوى الفكري تجديد نابع من معرفة سليمة بالأدوات المعرفية وحدود ومنطلقات كل أداة.

وملامح هذا التجديد الفكري هي تلك المنهجية القائمة على المنهج العقلي كأداة كاشفة وحاكمة على باقي أدوت المعرفة المختلفة، وهذا لا يعني أن العقل هو المصدر الوحيد للمعرفة في هذا النمط المطروح لتجديد الفكر،

اضغط على الاعلان لو أعجبك

بل هو الأداة التي تقوم بدور معين داخل المنظومة المعرفية من جهة، وكأداة حاكمة ومحددة ومنظمة لدور باقي أدوات المعرفي (المعرفة) في منظومة فكرية متناسقة ومترابطة كما سنوضحه في السطور القادمة…

والمقصود بالمنهج العقلي هو المنهج المعتمد على العقل البرهاني كأداة كاشفة للواقع ومدركة للحقائق بمعاونة باقي أدوات المعرفة، كلٌ وفق قدراته وحدوده.

المقصود بالعقل

وحتى نحرر مفهوم العقل من الكثير من التعريفات التي لا نقصدها، نحدد المقصود بالعقل بأنه:

قوة النفس التي بها تدرك المعانى الكلية، وهو أحد الأدوات المعرفية التي بها يحصل “الإدراك العقلى” الذي يعتبر المرتبة العليا من مراتب الإدراك، وراء الحس والخيال والوهم.

وبهذه القوة النفسية “العقل” يتميز الإنسان عن الحيوان بالآتى:

التساؤل عن علل الأشياء وحقائقها، وإدراك المعانى الكلية، كذلك التمييز بين الحق والباطل، الخير والشر، وإدراك مسببات السعادة… كل ما سبق يتحقق عبر ما يسمى ب “العقل النظري”.

وملامح هذا النمط الفكري

يعتمد المنهج العقلي على القياس البرهاني للوصول إلى حقائق، فهو ينطلق من مقدمات كلية سليمة البنيان ومبرهن على صحتها؛ حتي يستطيع أن ينتج عنها نتائج سليمة وواقعية… ونستعرض هذا المثال لبيان هذه القاعدة الفكرية:

مع تحديد قضية كلية تقول

كل جسم مؤلف

وكل مؤلف محدث

النتيجة: فكل جسم محدث

ففي البحث عن الحقائق يكون اعتماد القواعد السليمة هو الاساس وليس وجهات النظر الظنية أو ما نهوى ونحب أو بما يحقق لنا النفع والمصلحة الشخصية بما يخالف الواقع.

تعتمد المنهجية العقلية على خطوات محددة، فإذا أراد الباحث أن يحصل على نتائج يقينية رصينة لبحثه، بعيدة عن الشكوك والشبهات، فلا بد له أن ينطلق في تفكيره وبحثه من نقطة الصفر، وهي نقطة التشكيك الاختياري، في كل ما يحيط به، ثم يشرع في التفكير فيخطو الخطوة الأولى، لإثبات أصل وجود الواقع الخارجي بنحو مجمل، ثم يشرع في الخطوة الثانية لإثبات إمكان العلم التفصيلي بهذا الواقع الموجود.

وليس أمامه في هاتين الخطوتين التفكيريتين للخروج من مستنقع الشك، إلاَّ أن يعتمد على سلسلة من المعارف الذاتية البيّنة بنفسها، التي يمكن الركون إليها والاعتماد عليها، وهذه المعارف البينة بذاتها ليست مختصة بفرد دون فرد أو طائفة دون أخرى،

بل هي عامة مشتركة بين الجميع، وتسمى بـ (القضايا الأولية البديهية)، وعلى رأس الأوليات هي قضية امتناع اجتماع وجود الشيء وعدمه أو ما يسمى بـ (امتناع اجتماع النقيضين)، وأصل العلية (وهى قاعدة أن لكل شيء ممكن سببًا).

منطلقا من تلك القواعد إلى إدراك الحق عبر المعرفة اليقينية؛ فإن غاية مراد الإنسان هو البحث عن الحقيقة، ذلك الحق هو الكاشف للواقع أو المطابق للواقع كما يقول الحكماء وليس كما يضع البعض من معايير أخرى للحق مثل القوة أو ما ينفع الناس فى معايشهم المادية أو ما اجتمع عليه غالبيتهم!

لكن السؤال الذى يدهش العقلاء من الناس:

كيف يسعى الإنسان إلى الحق والذي بمقتضاه بذل العلماء والمفكرون جل جهودهم فى إدراك العلوم والمعارف المختلفة… وفى النهاية يتضح أن ما خاضوا فى تبيانه واكتشافه ماهى إلا علوم وحقائق ستتغير مع الزمن أو أنها ستظل نسبية في ذاتها وتخضع لوجهات النظر والآراء المختلفة؟!

فالحق ثابت وغير متغير وهو ما يؤكد عليه الفكر العقلي السليم.

إن مشكلة الغربيين أن علومهم ظنية متغيرة يحكمها المختبر، ومن ثم أرادوا إسقاط هذا الفهم حتى على العلم الثابت البرهاني، فوقعوا في الشك في كل شيء، كما أن العلوم الاعتبارية مثل القوانين الوضعية والتشريعية المدنية والأحوال الاقتصادية لا سيما أسعار صرف العملات، كلها قابلة للتغير.

الحق مطلق

كذلك الحق مطلق ومن ثم نرفض مقولة “إن كل علم نسبي” وهنا للرد على من يرى أن كل علم نسبي ثلاث نقاط:

أولا:

إن البديهيات العقلية تمنع القول بالنسبية، فقضية بديهية مثل (الكل أعظم من الجزء) لو اعتقد بها شخصان بشكل مختلف لأدّى ذلك لاجتماع النقيضين المحال، وهكذا يكون الأمر بالنسبة لقضية (النقيضان لا يجتمعان).

ثانيا:

فى المجال الرياضي والتجريبي هناك أساسيات مطلقة لا تخضع للنسبية؛ لأنها علوم ذات قواعد صناعية لا أحد يستطيع تجاوزها؛ فليس لأحد أن يدّعي أن الحديد لا يتمدد بالحرارة من وجهة نظره، أو أن الاثنين نصف الأربعة مثلا، فإن أقر النسبيون بإطلاق تلك القضايا فعلى أي أساس يلصقون النسبية بقضايا فكرية واعتقادية أخرى؟

وإن اعتبر بعضهم القضايا التجريبية والرياضية نسبية، فعلى أى أساس صنعوا الطائرات والأبراج ووسائل المواصلات طالما أنها مبنية على قوانين فيزيائية وميكانيكية غير ثابتة ولا تسبب لهم الاطمئنان ودرجة الأمان الكافى؟

ثالثا:

إنّ أكبر نقد يواجه به النسبيون هو ما يرد على مقولتهم (إن كل علم نسبي)! فهل أن هذه القضية مطلقة أم نسبية؟ فإن قالوا أنها مطلقة، فهو اعتراف بعلم مطلق لا يخضع لرأي شخص أو إيحاء ظرف ما. فإنهم أرادوا إثبات نسبية كل القضايا فتورّطوا بإثبات إطلاق قضية لم تسلم من النقد.

وإن قالوا: إنها نسبية؛ فتفقد صلاحيتها كقانون كلي مطلق لسائر القضايا والأحكام.

إن المنهج العقلى قادر على اكتشاف عالم الطبيعة وإدراك عالم ما وراء الطبيعة؛ لأن الإدراك العقلى –مثلما أوضحنا– أعلى من الإدراك الحسي وبالتالى فحدود العقل تفوق حدود الحس والتجارب والتي لا يمكنها بأي حال من الأحوال تجاوز حد الواقع المادي “عالم الطبيعة”…

العقل البرهاني هو الحاكم

إن خلاصة ما تم إيضاحه سابقا يشير إلى أن العقل البرهاني هو الحاكم على جميع الأدوات المعرفية الأخرى والتي تستمد حجيتها ومشروعيتها ودورها من العقل الحاكم، فتارة يصل العقل بمفرده إلى معرفة الحقائق المجردة للأشياء، ويستلهم من السلوك العملي والتجرد الروحاني الوقود المعد للإدراك والمعرفة،

وتارة أخرى يبدأ العقل فى استخدام التجربة الحسية للوقوف تفاصيل الظواهر الطبيعية من حوله، وعلى الجانب الآخر يبحث العقل عن الدين ويستنبط من نصوصه المقدسة العبادات والأحكام الشرعية والقوانين اللازمة لإقامة منظومة العدل على الصعيدين الفردي والاجتماعي.

وبذلك نكون قد حددنا الإطار التجديدي على مستوى الفكر والذي بدوره سيكون المقدمة الحقيقية لتحديد مواطن القوة والضعف في كل ما يحيط بنا سواء على المستوى النظري أو العملي، كذلك يعد هذا الفكر مظلة جامعة غير استقصائية وفي نفس الوقت واقعية، تستمد تلك الواقعية من قدرتها الذاتية بأدواتها على كشف الواقع بجوانبه المختلفة مادية كانت أو معنوية.

اقرأ أيضاً:

الجزء الأول من المقال

الجزء الثاني من المقال

الجزء الثالث من المقال

الجزء الرابع من المقال

الجزء الخامس من المقال

*****************

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا