مقالات

تجديد الخطاب الفكري – الجزء الخامس

نستكمل في هذا المقال نموذجًا آخر من المناهج المعرفية، نستعرضه ونحلله ونحدد مدى الحاجة إليه موضحين حدوده ودوره في العملية المعرفية السليمة من توضيح نظرته للعقل.

المنهج النصي الإخباري الديني

وهنا نجد من المفيد التفرقة بين هذا المنهج باعتبار أداته المعرفية التي يستمد منها معارفه هي النص الديني، وبين النص الديني نفسه؛ فالنقاش قائم حول المنهجية، وليس حول النص نفسه، وهذا أمر لا بد من التأكيد عليه أولا؛ حتى لا يخرج الموضوع عن مضمونه الأصلي؛ فالنقاش حول المنهجية وليس النص.

المقصود بالمنهج النصي الإخباري هو ذلك الاتجاه الذي يعتمد الظهور العرفي الظني في فهم النصوص الدينية، والجمود عليها في بناء الرؤية الكونية، دون أيّ تعقّل أو تدبّر لها، وبالتالي يحصر المعرفة الإنسانية الكلية فيها، وهذا الاتجاه له جذور في الديانات القديمة لا سيّما اليهودية والمسيحية منها، ويُعرَف هذا الاتجاه في الدين الإسلامي بمدرسة أهل الحديث أو المدرسة السلفية في عصرنا الحاضر.

في المسيحية

ويظهر هذا الفكر بوضوح في المسيحية، فبعد انتشار المسيحية فى أوروبا وتأصيلها على يد بطرس وبولس الرسول (والذي ساهمت رسائله في رسم شكل المسيحية المعروف حاليا)، حصلت خلافات عديدة بين طوائف المسيحيين حول تفسير نصوص العهد الجديد، وظهرت العديد من الصدامات “اللاهوتية” التي تمس طبيعة المسيح نفسه، والبالغة أوجها لدى أتباع آريوس،

حتى عقد المجمع المسكوني برئاسة الإمبراطور قسطنطين الأول؛ للحصول على توافق في الآراء وعلى الوحدة داخل المسيحية، وتم وضع قانون الإيمان الذي نص لأول مرة في التاريخ المسيحي على لاهوت السيد المسيح والأقانيم الثلاثة.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

منذ ذلك الحين اجتمع المسيحيون على اعتبار أن صاحب أي رأي يخالف نص قانون الإيمان، هو خارج عن المسيحية، بذلك بدأ تأصيل الاتجاه النصي المسيحى وظهر الخلاف الشديد بين الأساقفة المسيحيين وبين عديد من المفكرين فى أوروبا “خاصة فيما بعد القرن السابع عشر” حول نصوص الكتب المقدسة التي تبدو مخالفة للعقل وللتطور العلمي البارز آنذاك.

في الفكر الإسلامي

في الفكر الإسلامي كذلك  تمت ترجمة الكتب اليونانية في المنطق والفلسفة والسفسطة؛ فانقسم المسلمون إلى قسمين: الأول  تبنوا الطريق الفلسفي والعقلي لكشف الواقع، والثاني التزموا  بظاهر الكتاب والسنة وأقوال السلف التابعين والصحابة ولكنهم انقسموا إلى فئتين.

فئة تعلمت المنطق والفلسفة بغرض الدفاع عن الدين وهم المتكلمون كالأشاعرة والمعتزلة ولكنهم لم يقتنعوا بحاكمية العقل وحجيته، بل إنهم اعتقدوا أولا ثم استدلوا بالعقل على اعتقادهم بعد ذلك، والأخرى فئة حرّمت تعلم الفلسفة وعلم الكلام وتمسكت بظاهر الكتاب والسنة وأقوال السلف فقط، سموا أنفسهم “أهل الحديث ” وقد أُطلق عليهم “الحشوية”.

ومصادر المعرفة لهذا المنهج هما:

القرآن: وهو المصدر الرئيسي للتلقي عند أهل الحديث، ويستعينون على فهمه وتفسيره بالعلوم المساعدة على ذلك، كعلوم اللغة العربية، والعلم بالناسخ والمنسوخ، وأسباب النزول، وبيان المكية والمدنية، ونحو ذلك من العلوم.

السنة الصحيحة: والصحة شرط لقبول الحديث والعمل به عندهم بحسب قواعد التصحيح والتضعيف. ولا يشترطوا أن يكون الحديث متواترًا، بل هم يعملون بالمتواتر والآحاد على السواء.

الإجماع: إجماع السلف الصالح عندهم حجة ملزمة لمن بعدهم. فهم أعلم الناس بدين الله بعد نبيه. فإجماعهم لا يكون إلا معصومًا.

نظرتهم للعقل بشكل عام:

يضع النصيون “الإخباريون” العقل فى مقابل النص الدينى، فالأحكام العقلية هي نتاج الفكر البشرى، أما الوحي فهو أمر سماوي مقدس من عند الله؛ لذا فالوحي أولى بالاتباع من العقل ولا ينبغي أن يدنس العقل حريم الدين؛

وعلى ذلك فأصول الدين وهي المسماة بالعقائد ” كقواعد عامة وتفاصيل جزئية أيضا ” يتلقاها الإخباريون من النصوص الدينية مباشرة وليس للعقل دور في التوصل إليها، وربما يستثني بعضهم مسألة وجود الإله نفسه أو الحاجة إلى الدين فيعتبرونها مسألة ضرورية يقرها العقل

وهنا نوضح النقد على هذا النمط المنهجي للتفكير، كذلك نوضح الفهم الصحيح لقيمة النص الديني في تكوين الرؤية السليمة وفق الدور الحقيقي للنص الديني.

في البداية يجب أن نعرف حاجة النص إلى العقل

إن الإخباري الناكر لأهمية العقل كأداة حاكمة فى كشف الحقيقة والمستبدل ذلك المنهج بالإخبار القائم على النص الديني، ينبغي أن يسأل نفسه ذلك السؤال: ما الذي دلني على الدين السليم ومن ثم الاعتقاد بيقينية النص الديني،

فإن قال الإخباري أن الدليل من النص، فكيف أستدل على صحة النص بالنص نفسه، فأعرف من خلال نصوص الكتاب المقدس أن الإنجيل صحيح، أو من آيات القرآن أن القرآن حق!

أما إن قال إن منشأ الدين من العقل ولكن بعد ذلك لا ينبغي أن يتدخل العقل في الدين، فإنه بذلك قد شكك فى مصداقية العقل وقدرته بوجه عام! فما الذي يضمن على هذا الحال ألا يكون العقل قد أخطأ أيضا في مسألة التوصل للدين الصحيح؟

وعلى ذلك فحجية وإثبات النص الديني “الوحي”  هي من العقل، وحجية العقل البرهاني ذاتية

وقد يظن البعض بعد التوضيح السابق بعدم حاجتنا للدين والنص، وقد يسأل ما الحاجة إلى الدين والنصوص طالما أن العقل البرهاني قادر بنفسه على معرفة الواقع وإدراك الحقيقة والمبدأ الأول لكل الموجودات؟

هنا يجب أن نوضح حاجة العقل للدين والنص

إن العقل والدين متكاملين ولا غنى لأحدهما عن الآخر، والعلاقة بينهم ترابطية –وهو خلاف ما زعمه النصيون وأهل الحديث من وجود تناقض وتعارض-  فالعقل هو النور الكاشف والدين هو الصراط المستقيم، فلا مجال حينئذ للسؤال حول “أيهما أفضل: النور أم الصراط؟!”

فدور العقل

الوصول إلى المبادئ العامة للرؤية الكونية “كليات أصول الدين ”

الوصول إلى مبادئ الأيدلولوجية العملية ومنها مبادئ الأخلاق وفضائل الأعمال “كليات فروع الدين”

الوصول إلى كليات   الأحكام التشريعية والقوانين الاعتبارية دون تفاصيلها ” كليات فروع الدين أو ما يسمى بمبادئ الشريعة عند المسلمين”

تفسير النصوص الدينية والدفاع عن الدين ورد الشبهات

ودور الدين

يبدأ فى مناطق الفراغ العقلي –وهى المناطق التي يعجز العقل البرهاني وحده عن الخوض فيها- وتشمل التفاصيل التشريعية والاعتبارية والعقائد الجزئية وتفاصيل الأصول العملية (جزئيات وتفاصيل كل من أصول وفروع الدين)

وفي الختام نوضح لهؤلاء الذين  قد يتعجبون من هذا الترتيب للأدلة على أن تقديم العقل على النص ليس تقديم تشريف، وإنما تقديم ترتيب؛ فالخارج من منزله يسعى إلى المسجد، لا بد أن يصل المسجد عبر الطريق؛ فالمرور بالطريق قبل المسجد لا يعني تفضيل الأول وتشريفه على الثاني، إنما هو الترتيب المنطقي للأمور.

اقرأ أيضاً:

الجزء الأول من المقال

الجزء الثاني من المقال

الجزء الثالث من المقال

الجزء الرابع من المقال

*****************

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا