فن وأدب - مقالاتمقالات

تأثير الموروث الشعبي على النخب الثقافية .. الجزء الثاني

إذا قمنا بالنظر إلى ما تم من محاولات جرد الآثار المباشرة للمأثور الشعبي على أدب النخبة، يمكن أن نتوقف أمام عمل مهم عنوانه “ببلوجرافيا شارحة للمسرحيات العربية المتحولة عن السِيَر الشعبية”، تتبع مؤلفه الدكتور عبد الكريم الحجراوي كل المسرحيات التي كتبها أدباء من الصفوة، ونُفِّذ أغلبها على خشبات المسرح، ولبت، في جانب منها، الدعوات التي أطلقها مسرحيون كبار عن ضرورة إبداع اتجاه عربي في المسرح، مثل توفيق الحكيم ويوسف إدريس وعبد الكريم برشيد وغيرهم.

تناولت الببلوجرافيا ثلاثة أساليب لهذا التحول، أولها النهل من الحكايات الشعبية العربية، مثل ألف ليلة وليلة والأراجوز وخيال الظل والسِيَر، وثانيها يقوم على استلهام الحكايات التاريخية التي تداولتها مختلف الحضارات التي شهدتها المنطقة العربية عبر آلاف السنين، وثالثها تعريب بعض النصوص المسرحية الغربية وإعطائها نكهتنا الشعبية.

وقد كانت السِيَر الشعبية ملاذًا لكثير من المسرحيين في أوقات عصيبة، فمثلًا بعد هزيمة 1967، وجدوا في سِيَر الأبطال ما يحفز الهمم ويزيل بعض الهم، فكتب المصري ألفريد فرج مسرحيته “الزير سالم” 1967، وكتب المغربي عبد الكريم برشيد مسرحية “عنترة في المرايا المكسرة”، وتوالى هذا لدى مسرحيين كثر، حتى وصل عدد المسرحيات المستلهمة من موروث وسِيَر شعبية في المدة بين 1967 و2011 إلى 120 مسرحية، وهي إحصاءات أوردها الحجراوي في أطروحته للدكتوراة، تحت عنوان: “تحولات الخطاب الدرامي من السِيَر الشعبية إلى المسرحيات العربية 1967 – 2011، نماذج مختارة”.

لم يقتصر الأمر على ذلك، بل إن بعض السِيَر، انتقلت روايتها من الشارع إلى الإذاعة ثم التلفزيون، فوجدنا السِيرة الهلالية تذاع بانتظام على “إذاعة الشعب” في مصر، برواية وإنشاد جابر أبو حسين وتقديم عبد الرحمن الأبنودي، وأُعِدَّت حولها سهرة تلفزيونية، ثم مسلسل مصري من ثلاثة أجزاء بدأ عرضه 1997، كتبه المسرحي يسري الجندي، وآخر سوري بدأ عرضه عام 2008 من تأليف حمد متعوق، وشارك فيه ممثلون من سوريا وتونس والعراق. وعرضت ثلاثة مسلسلات عن الزير سالم، أولها أنتج بالكويت وعرض عام 1977 من تأليف محفوظ عبد الرحمن، والثاني كان مصريًا وعرض عام 1984 من تأليف رفيق الصبان وهشام السلاموني، والثالث سوري بدأ عرضه عام 2000 من تأليف ممدوح عدوان.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

في السينما يوجد عديد من الأفلام المأخوذة من حكايات شعبية مثل: “قيس وليلى” و”عنتر وعبلة” و”ابن عنتر” و”مغامرات عنتر” و”شمشون الجبار” و”أبو زيد الهلالي” و”الزناتي خليفة” و”مسمار جحا” و”الشاطر حسن”، و”أدهم الشرقاوي” وهو قصة زكريا الحجازي وسيناريو سعد الدين وهبة، و”حسن ونعيمة” الذي صاغه عبد الرحمن الشرقاوي، و”شفيقة ومتولي” من تأليف صلاح جاهين، و”سعد اليتيم” الذي كتب قصته يسري الجندي و”ياسين وبهية”، وأعيد فيلم “عنتر بن شداد” برؤية جديدة عام 1961. وقد أحصى هذا محمود قاسم في كتابه: “الفيلم التاريخي في السينما المصرية”.

يظهر البطل في أغلب هذه الأفلام، وفق الناقد جمال عبد القادر، قاهرًا للأعداء وقادرًا على الدفاع عن أهله ومحبيه، ومتمسكًا بقيم النبل والفروسية والعطاء والفداء، وكل هذا يلقي قبولًا عميقًا لدى الجمهور، إذ يتماهى المتفرج مع البطل، ويحس أنه ينتصر بدلًا منه أو نيابة عنه، ويحقق له أحلامه المبتغاة والمؤجلة، وقد يريحه هذا نفسيًا ولو مؤقتًا، وربما يسعى، ولو مستقبلًا، إلى الاقتداء به حقًا، ويجد في سِيرته ما ينفخ في الأوصال ويشد العزم.

هناك مسلسلات أُخِذت أيضًا عن سِيَر شعبية، مثل: “علي الزيبق” و”على بابا والأربعين حرامي” و”جحا المصري” وهي من تأليف يسري الجندي، و”أدهم الشرقاوي” من تأليف محمد الغيطي، و”حسن ونعيمة” و”ملاعيب شيحة” و”ريا وسكينة”، وهناك أيضًا أغاني كثيرة لمطربين من النخبة مستمدة من قصص وحكايات شعبية، أو تضاهي الغناء الشعبي وفنونه، ومن النخبويين من أُطلق عليهم صفة “مطرب شعبي”، مع أن سمته وخلفيته وارتباطاته الاجتماعية بعيدة عن الشعبوية، ومهما صنع هذا بإتقان فإنه يظل بعيدًا عن الروح الشعبية التي تنتجها القريحة الجماعية أو العقل والوجدان الجمعي للناس.

كما أن الحكاية الشعبية، بوصفها فنًا مستقلًا استقر في وجدان الناس وضمائرهم جيلًا بعد جيل ويعبر عن قضايا حياتية إنسانية ووطنية، لها دور مهم في صناعة أو صياغة دراما اللوحة التصويرية المعاصرة، حسبما قرأت في دراسة للباحثة سالي السعيد الديب بعنوان “الرواية الشعبية ودورها في دراما اللوحة المعاصرة”، إذ يمنحها صدقًا في التعبير وبعدًا عن النمطية ويغذيها بأفكار مبتكرة، تخلق تكوينات فنية مختلفة، نظرًا لأن الرواية الشعبية التي تسرد أحداثًا واقعية أو خيالية أو هما معًا، تحمل في باطنها كثيرًا من المعاني الاجتماعية والفلسفية والسياسية المتجذرة، التي تنعكس بقوة على اللوحات التي يستعمل راسمها أهم زخارف الفن الشعبي وتقنياته.

وفي الاتجاه المضاد تدلت ثقافة النخبة إلى المستوى الاجتماعي الأدنى، فأفسدت الثقافة الشعبية، بل أزاحت كثيرًا من مضامينها، ولا أبالغ إن قلت إنها سممتها، إذ أخذت منها عفويتها السارية وعمقها المقيم وقدرتها العالية على مجاوزة الزمن، إذ يحمل جيل إثر جيل نصوصها بكافة أنواعها: الأمثال، والحكم، والأغاني والمواويل، والحكايات. فكل هذا لم يلبث أن خالطه ما جاء إليه من هناك، حيث الإذاعة والتلفزيون والسينما ثم محركات البحث على الشبكة الإلكترونية العنكبوتية. وقد وجد جامعو الفلكلور أن هذا التسميم قد بلغ مداه، لا سيما في المجتمعات التي لم تحرص على جمع موروثها الشعبي أولًا بأول.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

نكمل الأسبوع المقبل إن شاء الله تعالى…

مقالات ذات صلة:

الجزء الأول من المقال

الموروث الخطأ بين الهوية والاغتراب

الأزمة الحضارية وثقافة اللقطة!

اضغط على الاعلان لو أعجبك

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

اضغط على الاعلان لو أعجبك

د. عمار علي حسن

روائي ومفكر مصري

مقالات ذات صلة