أسرة وطفل - مقالاتعلم نفس وأخلاق - مقالاتمقالات

يظل ما تقوله البيئة المحيطة هو الأهم .. الجزء الأول

يروي لنا الأستاذ الدكتور سعيد إسماعيل علي أستاذ ورئيس قسم أصول التربية، في ذلك الوقت، موقفًا حدث له عندما كان في أمريكا، وسأترك له المجال لينقل لنا المشهد بعباراته هو..

يقول: “ذهبنا مع بعض عائلات دارسين ومهاجرين مصريين إلى بوسطن، في عطلة الأحد في نزهة خارجية، حيث كان المكان يحفل بعديد من الأشجار التي جفت أوراقها وتساقطت، فامتلأت الأرض بها”.

يواصل حديثه قائلًا: “أخذت –منفردًا– أتجول بعيدًا بعض الشيء استكشافًا للمكان، وعند عودتي قابلت ابنة أحد المهاجرين، التي كان عمرها يدور حول الخامسة على وجه التقريب، وهي قابضة بيدها على شيء، وعلى ملامحها ووجهها حيرة، فسألتها عما بها، فأجابت: أكلت قطعة شوكولاتة صغيرة، وأبحث عن سلة مهملات لألقي فيها الغلاف الذي كان يحيط بقطعة الشوكولاتة!

أشرت إليها ضاحكًا إن الساحة واسعة، ممتلئة بأوراق الشجر الجافة المتساقطة على الأرض، ومن ثم فلتلق بغلاف قطعة الحلوى حيث تريد!

إذا بالطفلة ذات السنوات الخمس تنظر إليّ باندهاش ممزوج بقدر من الاستنكار، فانتبهت فجأة إلى المأزق الذي وقعت فيه، طفلة صغيرة تعلمني أنا، أستاذ ورئيس قسم أصول التربية، في ذلك الوقت.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

هل للبيئة دور في تكوين شخصية الفرد؟

سقطت آلاف الصفحات التي قرأتها ومثلها التي كتبتها، أمام طفلة صغيرة أنتجتها “بيئة”، وربتها نظم نظافة وقواعد ممارسة مجتمعية!”.

ليس كل الصغار صغارًا، وليس كل الكبار كبارًا، وقد رأينا جميعا –وما زلنا نرى– في حياتنا اليومية أشخاصًا متقدمين في السن، وربما يحملون أعلى الشهادات العلمية، يأخذون بعض دروس الحياة من صغار السن.

هذه الصغيرة التي قابلها البروفيسور سعيد إسماعيل علي أوصلت له ومن خلاله رسالة فصيحة، رغم أنها لم تقلها بلسانها لكنها قالتها من خلال حالها، فنظراتها المندهشة الممزوجة بقدر من الاستنكار نبّهت البروفيسور إلى المأزق الذي وقع فيه عندما وجهها برمي غلاف الشوكولاتة على الأرض، لتختلط بالأوراق المتساقطة من الأشجار، ولكنها لم تفعل ذلك، لأن “البيئة” التي تربّت فيها لا تسمح بمثل هذا السلوك.

الإنسان ابن بيئته، ورهن لطبيعته التي تربى عليها، وإخراج الأشياء عن طبائعها هو شيء عسير جدًا ومكلف جدًا، بل إنه خطر وقليل الجدوى، وهذا هو المأزق الذي أراد البروفيسور أن يخبرنا به من خلال سرده لهذا المشهد، كما يبدو لي.

العلاقة بين الإنسان والبيئة

تأثير البيئة على السلوك

إن المزارع عندما يريد أن يزرع أي نوع من أنواع المحاصيل، فإنه لا يرمي البذور أينما وكيفما تيسر، بل إنه يختار الأرض الزراعية بعناية، ثم يبدأ بحرثها وتقليبها، وتنظيفها من أي أحجار أو نباتات ضارة.

يدفن البذور تحت التراب ويسقيها بالماء، ثم يتعهدها طوال مدة نموها بالسقي والتشذيب، حتى تؤتي محصولها على أكمل وجه، هذه العناية والتهيئة للبيئة التي قام بها المزارع، هي التي أعطته هذا المحصول الكثير والوفير.

بالمثل، فإن تهيئة البيئة التي ينبت فيها الإنسان وينمو تشبه إلى حد بعيد ما يقوم به الفلاح مع أرضه ومحصوله، بل تتعدى ذلك إلى ما هو أبعد، فالتعامل مع الإنسان ورعايته تكون أرقى أسلوبًا وأكثر حرصًا.

إذ كلما أحسنّا العناية ببيئة الإنسان، كلما حصلنا على الثمرة المرجوة من وراء رعايته، وليس مصادفة أن يأتي ذكر خلق الإنسان مع زراعة النبات في سورة واحدة هي سورة الواقعة، بل في آيتين متتابعتين منها، تحدثت الأولى عن الخلق، بقوله تعالى: “أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ }58{ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ }59{“، وتحدثت الثانية عن الزراعة، بقوله تعالى: “أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ }63{ أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ }64{“، وبين الخلق والزراعة من تهيئة البيئة للنمو وانتظار الثمرة المرجوة ما لا يحتاج إلى مزيد توضيح.

ثمن عدم التغيير

إن كثيرًا من الناس لا ينتفع بقولك، عندما تقول له: إن من المهم أن نهيئ للأبناء جوًا أسريًا أو دراسيًا ملائمًا حتى يتمكنوا من المذاكرة الجيدة مثلًا، وكثيرًا ما يكون جوابهم على هذا النحو: هذا ليس ضروريًا، ففلان صار طبيبًا كبيرًا مع أنه كان يعيش في غرفة واحدة مع أبويه وإخوته الخمسة، أو يقال لك: إن فلانًا يعيش في قصر، مع ذلك لم ينجح في دراسته. والمراد من وراء هذين القولين واحد، وهو إبطال أهمية البيئة الملائمة للمذاكرة، تعلقًا ببعض الصور القليلة التي رآها.

بمعنى آخر، فأمثال هؤلاء يريدون إسقاط القاعدة العامة بالمثال الشاذ، ولو مضيت مع أولئك في كل شؤون الحياة لوجدت أن كثيرين منهم لا يعتقدون أن هناك شروطًا وقواعد وأسسًا معينة لتحقيق النجاح في كل قضية من القضايا، بل الأمر متوقف على “البَرَكَة” كما يدّعون، ولكن هيهات، فالتجربة الإنسانية تعلمنا أنه لا بد من دفع الثمن: فإما أن ندفع ثمن التغيير، أو ندفع ثمن عدم التغيير.

دور البيئة والوراثة في تشكيل شخصية الإنسان

إن أكثر شيئين يؤثران في حياتنا هما الوراثة والبيئة، الوراثة تحدد كثيرًا من ملامح شخصيتنا على مستوى الجسم والشكل والقدرات الذهنية وأشياء أخرى كثيرة، لا يتسع المقام لسردها.

أما البيئة فإنها مصدر كبير ومؤثر جدًا في صنع الرغبات وتحديد الاتجاهات وامتلاك المهارات… إننا نتعلم من البيئة معايير الخير والشر والصواب والخطأ، ومنها نتعلم ترتيب الأولويات في حياتنا الشخصية… ولست أبالغ (والكلام للدكتور عبدالكريم بكار) إذا قلت: “إن ما يزيد عن 60% من نجاحات الناس وإخفاقاتهم يعود إلى البيئة التي يعيشون فيها”.

من يطالع مقدمة ابن خلدون، التي ظهرت قبل كتاب “رأس المال لكارل ماركس” بعدة قرون، يجد أن عبد الرحمن بن خلدون أكّد في عديد من صفحات مقدمته كيف أن البيئة المحيطة –ماديًا واجتماعيًا وثقافيًا– لها دور حاسم في تشكيل أخلاق الناس وعاداتهم وتقاليدهم.

أثر وسائل التواصل الاجتماعي في التنشئة الأسرية

تأثير البيئة على السلوك

صحيح أننا نعيش الآن في عصر الاتصال، ولكنه أيضًا عصر الانفصال، فالأطفال والكبار يتواصلون مع البعيدين منهم –عبر وسائل الاتصال الحديثة– على حين يشعرون بالعزلة عمن حولهم من البيئة المحيطة، بعبارة أخرى، صارت البيئة الافتراضية هي الميدان الواسع الذي يلتقي فيه الكبار والصغار، بينما صارت البيئة الطبيعية والاجتماعية الحقيقة مقفرة إلا من بعض من لم تأسرهم البيئة الافتراضية أسرًا تامًا.

البيئة هي اليد الخفية التي تشكل سلوك الإنسان، وتأثير البيئة في سلوكيات من يعيش فيها قوي جدًا، ويعمل على نحو خفي، والإنسان يتأثر إلى حد بعيد بمحيطه وأوضاعه، وبما يمر به من ظروف، وهذا ثابت، لا مراء فيه.

سبب مشاعر الإحباط وخيبة الأمل لدى كثير من المربين هو عدم إدراكهم للأثر الضخم الذي تتركه البيئة المحيطة في نفوس الناشئة، وضآلة أثر رسائلهم التربوية الخاصة في جانب الرسالة التي ترسلها البيئة.

وللحديث بقية ..

مقالات ذات صلة:

أثر البيئة في فكر وسلوك الإنسان

الأبعاد الجمالية لأخلاقيات البيئة

زرع القيم وحصاد السلوك

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

*************

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د. يحيى أحمد المرهبي

أستاذ أصول التربية المساعد كلية التربية والعلوم التطبيقية والآداب – جامعة عمران. الجمهورية اليمنية.