انظر خلفك بغضب (Look Back in Anger)!
كان ذلك عنوان المسرحية التي كتبها الروائي المسرحي البريطاني «جون أوزبورن» John Osborne (1929 – 1994) بعد الحرب العالمية الثانية، مُعبرًا عن حرائق الغضب التي اشتعلت في قلبه وعقله حين سيطر على المجتمع الإنجليزي مجموعة من السفهاء والتافهين والأدعياء واللصوص والعقول المتحجرة، وقاموا باحتلال منابر الإعلام والصحافة، ومارسوا الاضطهاد والقهر على أصحاب الفكر والشرفاء من أبناء الوطن، واعتقلوا الحضارة واستباحوا القيم وصادروا حرية الفكر واغتالوا لون النهار الأبيض!
كان «جون أوزبورن» يُعبر عن جيل لم يشارك في الحرب، لكنه حانقٌ على نتائجها التي لم تكن مُنصفة بالنسبة له ولا تعطيه أملًا بمستقبل أفضل. وربما كانت الصرخة التي أطلقها «بوتر» بطل المسرحية هي صرخة جيل بأكمله: «اللعنة عليكم جميعًا، لقد دمرتم حياتنا، ودمرتم الوطن الذي تناثر أجزاءً»!
المسرحية كانت بالفعل إدانة كبيرة لمجتمع سيطر عليه الأفاقون والمدّعون في كل مجال، وهو مجتمع لا يقل في فجيعته عما تمر به كثرة من المجتمعات الآن.. تُرى ما الذي يمكن أن يقوله الجيل الذي لم يُشارك سلفه المهزلة، لكنه سيحصد قطعًا ثمارها؟!
الغضب سمة هامة من سمات التفاعل الاجتماعي
الغضب هنا لا يعكس عاطفةً عدوانية مُدمرة، أو سلوكًا متهورًا ومعاديًا للمجتمع، أو بُعدًا احتجاجيًا ذاتيًا بغيضًا لا يُلقي بالًا للأسس الإيجابية الصلبة التي يُمكن البناء عليها، لكنه بالأحرى سلاحٌ عقلاني لتأكيد الذات على خلفية الشعور بأن ثمة شيئًا خاطئًا قد حدث –أو يحدث– من شأنه أن يعصف بمقومات الحياة،
وهو مُكونٌ أساسي من مكونات الطبيعة البشرية، وسمة هامة من سمات التفاعل الاجتماعي: لا بد أن يغضب الناس عند إساءة معاملتهم، أو عندما ينتهك الآخرون ما ارتضوه من قوانين وأعراف، ومن ثم فهو قضية اجتماعية وفلسفية تتجلي مثلًا في مناهضة العنصرية، أو التمييز على أساس الجنس، أو انعدام العدالة وتفشي الفساد، أو توحش الرأسمالية والعبث بالطبيعة، إلخ.
ولو أردنا الدقة لقلنا إنه أداةٌ حيوية تتيح لنا منظورات جديدة، وفهمًا جديدًا للظروف السيئة التي قد يُدهشك اعتياد الناس عليها، وهو ما عبرت عنه «هارييت ليرنر» Harriet Lerner في كتابها «رقصة الغضب» The Dance of Anger (1985) بقولها: «الغضب علامة ناطقة تستحق الاستماع إليها، قد تكون رسالة مفادها أننا نتعرض للأذى، وأن حقوقنا تُنتهك، وأن احتياجاتنا ورغباتنا لا تتم تلبيتها بشكلٍ كافٍ، أو ببساطة أن شيئًا ما ليس صحيحًا»!
الفن المسرحي الإنجليزي
في الفن المسرحي الإنجليزي، لم يكن أي كاتب قبل «جون أوزبورن» يُوجه سهام نقده لسياسات بلاده، بما في ذلك «شكسبير» Shakespeare، و«بين جونسون» Ben Johnson، و«ريتشارد شيريدان» Richard Sheridan، و«أوليفر جولد سميث» Oliver Goldsmith، حيث كانت أعمالهم الدرامية ملتزمة ومُرضية لذوق المجتمع إلى حدٍ كبير.
وفي أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، عندما ظهرت الدراما في أوربا وأمريكا كأداة لمناقشة القضايا الجادة شكلًا ومضمونًا، تم تمهيد الطريق بحذر من قبل كُتَّاب مثل «هنريك إسبن» Henrik Ibsen في النرويج، و«أوجست ستريندبرج» August Strindberg في السويد، و«لويجي بيرانديلو» Luigi Pirandello في إيطاليا، و«آرثر ميلر» Arthur Miller في أمريكا، و«أنطون تشيخوف» Anton Chekhov في روسيا.
أما في بريطانيا فلم تبدأ مناقشة القضايا الجادة مسرحيًا إلا مع «جورج برنارد شو» George Bernard Shaw، ولم يتوهج مسرح الغضب ويتطرق إلى المسكوت عنه سياسيًا ومجتمعيًا إلا مع «جون أوزبورن»، ليستمر من بعده فاضحًا لفداحة الخسائر البشرية والمادية الناجمة عن القهر السياسي ومشكلات التلوث البيئي والانفجار السكاني والانتشار المكثف للأسلحة المدمرة واستنفاذ المواد الأولية وزيادة نسبة الفقر!
الفن في عالمنا العربي
ماذا إذن عن عالمنا العربي؟ ربما يحمل الفن من حين إلى آخر رسائل قصيرة وسريعة لإحياء الغضب المُغتال ولو كان معقولًا، لكن حاجتنا إلى نظرة الغضب، خلفنا وأمامنا، تظل ضرورية ومُلحة، بقدر ما ظل صوت فيروز صادحًا بكلمات الأخوين رحباني: «الغضب الساطع آتٍ وأنا كلي إيمان».. وبقدر ما تطربنا كلمات فاروق جويدة: «اغضب فإن قوافل الزمن الملوث تحرق الأحلام»!
اقرأ أيضاً:
أفلام الخيال العلمي في السينما المصرية
حال الفن والإعلام بشكل عام و السينما بشكل خاص
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.