لماذا ارتفع الدُخان إلى هذا الحد؟
مساء…
إنه في آخر دقات عقرب الثواني ليوم الأحد الموافق التاسع والعشرين من كانون الثاني، أُعرِب عن امتعاضي بالِغ الشدة المنبعث من جدار واقع زماننا السميك، وثِقل ما تحمل النفوس من هَمٍ وصعوبات ما بين البساط الأسود والخيمة الزرقاء.
لم يَعُد الواقع مُحتمَلًا يا أصدقائي! الآن باتت الرياح تجري بما يُغرق السُفن، أرى بعيني اليأس في أعيُن الناس أينما أدرتُها، باتت عجلات العربات ثقيلة على الطُرقات، بات سُباب سائقي الأُجرة أحدّ وأعنف من ذي قبل، ازداد صوت ارتعاش النوافذ في الحافلات، زادت التجاعيد في وجوه العِباد، باتت الألوان أبهت من الماضي، قَلّ التزيين في الشوارع، نُحت أسفلت الطرقات بعلامات صُنعت من ثقل الزمان، قلّت النقاشات في المقاهي.
فقدت الأمور معناها، سقطت المشاعر في ماء مُثلج فغرق إحساسها وكيانها وطفت على صفحة الماء بواقيها المُهمشة لتصبح محض مُصطلحات، الحب والاشتياق والصداقة والانتماء والشجن والسعادة والبهجة والكره والغضب والسخط، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل خضعت تلك المُصطلحات لتقييمات وتصنيفات غيرت من معانيها وتأثيرها على العقل البشري فأصبحت قشرة خاوية بلا روح.
حتى الانفعال دفاعًا عن الحقوق تغير معناه، الحق تغير، حق التعبير والرفض، ما لبث البشر أن طعنوا في حقوق بعضهم في التفكير والاعتقاد، فمالت لأن تكون معركة بأسلحة تكونت من أفكار مشحوذة يبعد هدفها عن التنوير ويميل إلى الانتصار، ولا ألوم فاعلي ذلك الفعل، أظن بأن هذا الانتصار اللحظي العابر هو كل ما يمكن لشباب هذا العصر أن يشعروا به، هذا الانتصار يذكرهم بطرق أسلافنا.
في عصر الانهزام، أصبحت جميع الانتصارات لها جدوى، حتى أضألها وأقلها قيمة وأدناها عقلانية، حتى وإن كانت لمنطق ضعيف أو لوجهة نظر منقوصة.
الآن أرى بكُل وضوح أن ضيق العالم الحالي هو ما يدفع الجميع لإيجاد مكان في عقول غيرهم، وهو منطقٌ بسيط، لا أجد مكانًا يتسع لفرد ذراعي في هذا الفضاء، إذًا سأناطح الجميع في وجهات نظرهم حتى أجد لنفسي موقعًا ولو بكلمة في نَص الحياة.
عَلا الدُخان من بيوت البُسطاء، لم ارتفع الدُخان إلى هذا الحد؟ أصبحت إضاءة أعمدة الإنارة باردة وحزينة بعد أن قلت الأعمدة المُنيرة بإضاءات دافئة.
أرى العالم يركض ليلاحق ذاته، يجري بلا هدف، بعد أن أسرعت وتيرة خطوات الإنسان على ظهر البسيطة، أضحى يركض فقط، لا يركض هروبًا من شيء ولا يركض إثر شيء، لكنه يركضُ بلا هوادة.
اُختصِرت المشاعر في قليل من اللمسات لـ”الشاشات الزجاجية” طول اليوم، ما الذي أدى لأن يكون العالم افتراضيًا إلى هذا الحد؟!
تذوب الهوية العربية يوميًا في أكواب المشروبات الغربية، تختفي اللغة، أبسط معاني التراث والتاريخ تندثر يوميًا في مواجهة لغات أسواق العمل، أُبصر أبناء العروبة يجيدون اللغات الأخرى أكثر من لغتهم الأم فأشعر بالحزن يوميًا، إلى أين نحن ذاهبون؟ خطونا في تاريخنا الحديث على رمال أخفت ألغامًا، نُقش عليها بالإنجليزية ولونت بالألوان الزرقاء والحمراء والبيضاء تفجر فكرًا مندسًا في شعوبنا يوميًا، تركنا التاريخ ثم الأدب ثم العلم ثم العزة ثم الكرامة ثم الفِكر ثم حدودنا، ثُم ماذا أيُها الناس؟ هي ألغام من أسفل الرمال، اليوم أيضًا.
إن البشر منهكون بسبب ركضهم، ولا أدري إلى أين يطول الركض، ولا أدري نتاج الغضب المُتفاقم في القلوب والسخط في الصدور، لكنه على وشك إحداث أمر عظيم الشأن، عظيم في فظاعتِه أو في جمالِه.
أُقر بأنني أعرف أن الأوقات الصعبة تُنتج رجالًا أشداء، والرجال الأشداء ينتجون أوقاتًا لينة، والأوقات اللينة تنتج رجالًا ضعفاء، والرجال الضعفاء ينتجون أوقاتًا صعبة، أدرك الدائرة المُحكمة، لكن ينتابُني خوف في كثير من الأوقات من إنتاج العصور الصعبة لرجال ضعفاء، فتكون النهاية غير سارة.
أفيقوا، أطلقوا على الأفعال أسماءها بغير خوف، تمسكوا بالمشاعر، تمسكوا بالإحساس المُجرد من المنفعة، احتفظوا بهويتكم، لا تتشكلوا لتواكبوا أحدًا، فأنتم الأصل، أنتم التاريخ، أنتم اللغة، كونوا شجعانًا.
رحمنا الله يا كِرام العرب، أعاننا الله على جعل تاريخنا مُعلقة في عقول الأكرمين، وندعو الله أن يمنحنا القدرة على عبور الأزمة في اتجاه تاريخ مُضيء ومُثمر.
مقالات ذات صلة:
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا