مقالات

النظريات الفلسفية في ماهية اللون

الجزء الرابع: النزعة الأولية (الأصالة اللونية) Primitivism، والنزعة الفيزيائية Physicalism

النزعة الأولية (الأصالة اللونية)

تعني كلمة أوليّ (Primitive) هنا: أصيل أو بسيط (Simple) أو جوهري (Intrinsic)، أي متفرد بذاته وغير منبثق عن غيره، بل هو من نوعه الخاص. ووفقًا للنزعة الأولية، فإن الألوان التي نراها “توجد” بالفعل في الموضوعات، لكنها ليست استعدادات للتأثير على المدركين، ولا هي خواص فيزيائية من النوع المألوف في العلم.

ما الألوان إذًا؟ لا نجد إجابة واضحة عن هذا السؤال لدى دعاة النزعة، فالألوان عندهم محض خواص بسيطة، جوهرية، غير علاقية وغير قابلة للردّ (أي لا تنبع من أصل معين)، لاحقة على السمات الفيزيائية المجهرية. والمثال التقريبي للجسم الملون الجسم المشحون كهربائيًا، فالشحنة هنا تناظر اللون من حيث كونها خاصية من نوعها الخاص.

تبنّى هذه النزعة في الفكر الفلسفي المعاصر الفيلسوفان البريطانيان جون كامبل (J. Campbell في مقاله “وجهة نظر بسيطة عن اللون” A Simple View of Color – 1997)، وبيتر هاكر (P. M. S. Hacker في كتابه “الظاهر والحقيقة” Appearance and Reality – 1987). والمشكلة الأساسية التي تواجه هذه الرؤية هي كيفية الربط بين الألوان –كونها خصائص موضوعية بسيطة– والمدركين لهذه الألوان، من العلاقات السببية، فلسنا نجد مكانًا للدور السببي الذي تؤديه تلك السمات اللونية الجوهرية في إدراك الألوان بما يُظهرها على حقيقتها المتفردة للناس جميعًا.

في محاولته للخروج من هذا المأزق، أصّر هاكر على أننا يمكن أن نقدم تفسيرات سببية لكيفية تأثير الألوان على المدركين، بالطريقة ذاتها التي نفسر بها تأثير حالتيّ الصلابة (Solidity) والسيولة Liquidity))، مشيرًا إلى أن هذين التصورين ظلا قائمين حتى بعد ردّهم إلى عمليات تجري على مستوى البنية المجهرية للأجسام، بمعنى أن عملية الردّ هذه لم تكن إلا كِمالة عدد (Otiose).

على أن هذا التمثيل بين تصور اللون وتصوّري الصلابة والسيولة مردودٌ عليه من جهتين، فمن الجهة الأولى نحن في حاجة إلى تحديد معيار لكون الشيء “أحمر” –على سبيل المثال– في ذاته أو على نحو جوهري، فليس كل المدركين للألوان لديهم اتفاق في أحكامهم، ولا يرجع السبب في ذلك إلى إصابة بعضهم (وهم قلة) بالعمى –أو الشذوذ– اللوني، ذلك أن اللون السائد لشيء ما هو لونٌ من المفترض أن تختاره الأغلبية، لكن الأحكام تظل أيضًا مختلفة لأسباب أخرى، كالإضاءة، وسياق الرؤية، والحالة الفسيولوجية العابرة. هذا بالإضافة إلى أنه إذا كانت توجد إزاحة تطورية (Evolutionary shift)، أو برامج لتحسين النسل (Eugenics programs)، فإن الأقلية يمكن أن تنمحي تمامًا، أو على أسوأ تقدير تصبح هي الأغلبية. وحتى لو افترضنا أن الأغلبية قد أجمعت على لون ما، فإن الحكم هنا يظل حكمًا للذات الواعية، ولا يحمل دليلًا على أن بعض الأشياء تتمتع بذلك اللون في حقيقتها!

اضغط على الاعلان لو أعجبك

من الجهة الثانية، لا نستطيع القول أن الخصائص اللونية يمكن أن ترد ببساطة إلى خصائص البنية المجهرية للأجسام الفيزيائية، بحيث يظل تصور اللون محتفظًا بسماته الأساسية، ذلك أن العلاقات الداخلية المعقدة بين الألوان لا يمكن أن تفسّر إلا بتأثيراتها على المدركين، فلكي نفسّر تلك العلاقات، نحن في حاجة أولًا إلى تقرير علمي عن أجهزة الإدراك الحسي للمدركين، وهذا يستلزم ثانيًا تقريرًا عن منحنيات الاستجابة للخلايا داخل الشبكية، بل ويستلزم ثالثا تقريرًا عن العمليات العصبية المصاحبة للإدراك اللوني.

إن الاختلاف الهام للألوان وغيرها عن الكيفيات –مثل الصلابة والسيولة– أن هناك سمات محسومة للألوان لا نستطيع أن نعيد بناءها في مستوى البنية المجهرية للأجسام، ولا يمكن أن نجد تفسيرًا لها في هذا المستوى، وأعني بذلك تلك السمات التي بمقتضاها تكون الألوان قادرة على تشكيل أنساق من الخواص ذات العلاقات الداخلية، وهي سمات أقر العلم بعجزه عن أن يجد لها تفسيرًا في المستوى الذري أو دون الذري.

النزعة الفيزيائية

النزعة الفيزيائية وجهة نظر قائلة بأن الألوان خواصٌ فيزيائية ذات ماهيات موضوعية مستترة، وإن كنا نجد اختلافًا بين أصحاب هذه النزعة فيما إذا كانت الماهية المستترة للون سمة بنائية مجهرية من جملة السمات المعروفة فيزيائيًا (أي خاصية ميكروفيزيائية جوهرية للجسم الملون)، أو خاصية استعدادية مرتبطة بالضوء.

المثال المبكر للنمط الأول هو الفيلسوف الاسكتلندي توماس ريد (Thomas Reid 1710 – 1796)، أما النمط الثاني –وهو الأكثر شيوعًا الآن– فمن أمثلته الفلاسفة الأمريكان ديفيد هلبرت (D. Hilbert)، وألكس بيرن (A. Byrne)، وجوناثان ويستيفال (J. Westphal).

الحق أن محاولة البحث عن ماهية للون بين السمات البنائية المجهرية للأجسام تبدو غير واعدة، فإحدى المشكلات الهامة التي تواجه هذه المحاولة مشكلة “الإدراكات المتكثرة” (Multiple Realizations)، أعني وجود أنماط مختلفة من الموضوعات الملونة: مثل السطوح والأحجام ومصادر الضوء، إلخ. ولو حاولنا البحث في السمات الفيزيائية الجوهرية التي تسبب ظهور اللون في كل نمط من هذه الأنماط لوقعنا في الارتباك. وحتى لو ركزّنا على النمط الأول فقط –أي لون السطح– فلن نستطيع تمييز البنية المجهرية التي تسبب ظهور الأزرق عن تلك التي تسبب ظهور الأصفر مثلًا، فالبنية المجهرية الواحدة قد تظهر ألوانًا مختلفة بمقتضى شروط إضاءة –أو رؤية– مختلفة، كما أن البنى المجهرية المختلفة قد تظهر لونًا واحدًا بمقتضى الشروط ذاتها!

أضف إلى ذلك أن محاولة ردّ خواص السطوح كافة (مثل الصلابة، السيولة، اللون، درجة الحرارة Temperature، المرونة Elasticity، إلخ) إلى عمليات البنى المجهرية للأجسام –على النحو الذي يجادل به دعاة النزعة الفيزيائية– لا تصمد أمام التحليل، ذلك أن لكل خاصية من هذه الخواص حالتها الخاصة، ولم يصل بعد منطق الردّ العلمي (Scientific Reduction) إلى درجة الاكتمال والعمومية. خذ مثلًا تصور “درجة الحرارة”، ولنفترض جدلًا أنه قد رُدَّ إلى تصور “طاقة الحركة” (Kinetic energy) بعد ظهور نظرية الجزيء أو الذرة، فإذا كانت درجة الحرارة قد مُيّزت أصلًا بوصفها “تلك الخاصية التي تؤدي كذا وكذا من الأدوار السببية”، فإن الباب قد ترك مفتوحًا أمام التعرف على درجة الحرارة بمعنى الطاقة الحركية. ويعني ذلك أن عملية الردّ العلمي لدرجة الحرارة قد مرت بمرحلتين: الأولى نُسِخ فيها التصور الأصلي ليحل محله تصور جديد معاد بناؤه، والثانية وُفِّقت فيها أوضاع التصور الجديد بحيث يسمح بإقامة علاقة هوية بين درجة الحرارة وخاصية أخرى توصف بالميكانيكا الإحصائية (Statistical Mechanics)، لكن هل يمكن تعميم هذه الحالة على خواص السطوح الفيزيائية كافة؟

خذ مثالًا آخر، وليكن تصور “الصلابة”، فقد يبدو أننا قد نجحنا في وصف عمليات البنية المجهرية التي تقدم الأساس السببي للصلابة، لكن ليس من الواضح أن الصلابة قد ردّت كليًا إلى سمات البنية المجهرية، ذلك أن عملية الردّ إنما تعتمد أولًا وأخيرًا على التصور الأصلي للصلابة، ولو دققنا النظر لوجدنا أكثر من تصور مرشح، وكل تصور من هذه التصورات مرتبط بقوى سببية معينة: اللا نفاذية النسبية (Relative Impenetrability)، المتانة (Stability) بقدر معين، القدرة على المقاومة (Resist)، وهلم جرا.

دعنا ننظر إذًا في النماذج المختلفة لربط الصلابة بهذه القدرات السببية:

  1. الصلابة = القدرات والقوى السببية على كذا وكذا.
  2. الصلابة = ذلك الأساس البنائي المجهري للمادة كيفما كان، الذي هو بمثابة الأساس السببي للقدرات والقوى السببية كما في (1).
  3. الصلابة = خاصية امتلاك بنية جوهرية معينة، بها يتمتع الموضوع بالقدرات والقوى السببية كما في (1).

من الواضح أن النموذج (2) الأقرب لعملية الردّ، ولذا نحن في حاجة إلى إعادة بنائه كيما يتوافق مع مختلف المواد من جهة، ومع الحالات المختلفة للمادة من جهة أخرى (فليس هناك أساس بنائي مجهري واحد يمثل الأساس السببي لكل القوى السببية)، ومن ثم نقول:

(2 مُكرر) الصلابة = ذلك الأساس البنائي المجهري للمادة كيفما كان، الذي متى وُجد، كان بمثابة الأساس السببي للقدرات والقوى السببية كما في (1).

الاختلاف بين النموذجين (2)، (2 مُكرر) يعتمد على كيفية ارتباط القوى السببية بالبنية المجهرية. حقًا إن مصطلح “الصلابة” يُفهم في أي نموذج منهما أنه توظيف أو اسم للخاصية ذاتها، إلا أن النظرة المدققة من شأنها أن تضعنا أمام نمطين مختلفين من ذلك الاسم، فالتمييز بالقوى السببية تمييز جوهري لفهم الاسم في النموذج (2)، لكنه ليس كذلك في النموذج (2 مُكرر)، إذ تستخدم القدرات السببية “فقط” للإشارة إلى البنية المجهرية، دون أن يلزم عن ذلك أن تكون في هوية معها، فأي تمييز آخر بخلاف القدرات السببية المذكورة يمكن أن يؤدي الغرض ذاته، الأمر الذي ينفي علاقة الهوية على إطلاقها، التي هي محور عملية الردّ المأمولة.

إن النموذج (2 مُكرر) يبدو ملائمًا لأسماء مثل “ذهب”، “ماء”، على الأقل بقدر ما نهتم بقدرات مثل المظاهر (Appearances) والطعوم (Tastes). أما النموذج (2) فيبدو ملائمًا لحدود مثل إلكترون (Electron)، بروتون (Proton)، جاذبية (Gravity)، موجة (Wave)، قوة (Force)، إلخ. وهو أكثر ملاءمة بالنسبة إلى تصوّري الصلابة والسيولة.

نخرج من هذا التحليل بنتيجة مؤداها أن تصور الصلابة –شأنه في ذلك شأن كثير من تصوراتنا لخواص السطوح المختلفة، وأولها بالطبع الألوان– يمكن أن يكون في هوية مع خاصية معينة للبنية المجهرية للمادة، شريطة أن تكون الإشارة إلى القدرات السببية إشارة جوهرية لتمييز الصلابة، لكن هذه القدرات السببية كما رأينا ليست جوهرية للصلابة ذاتها، أو لكثرة من التصورات الأخرى. فإذا أضفنا لذلك ما تظهره الألوان من علاقات داخلية يستحيل أن نجد لها تفسيرًا في غيابات البنية المجهرية للمادة، أمكننا إذًا القول أن عملية الردّ قد دُحضت تمامًا.

بقي إذًا النمط الثاني من أنماط النزعة الفيزيائية، أعني ذلك القائل بأن اللون خاصية موضوعية لسطوح الأجسام الفيزيائية، تتمثل في استعداد السطح لتعديل الضوء والتفاعل معه بشكل أو بآخر. وقد التقينا من قبل بمثالٍ مبكر لهذا النمط لدى الفيلسوف الأسترالي ديفيد أرمسترونج، لكنه لم يستطع مواجهة الاعتراضات التي أثارها ضده دعاة النزعات الأخرى لا سيما عجزه عن تقديم تفسير مقنع للتماثلات والاختلافات اللونية، بما في ذلك ظاهرة “الميتاميرزم”، هذا بالإضافة إلى تجاهله للملاحظات الفينومينولوجية المتمثلة في كون “البرتقالي” –على سبيل المثال– بمثابة درجة لونية ثنائية (Binary Hue)، بمعنى أن كل أطياف البرتقالي تبدو ضاربة إلى الحُمرة والصفرة في الوقت ذاته، في حين أن “الأصفر” له درجة لونية فريدة (Unique hue) ليست ضاربة إلى الحُمرة أو الخضرة.

أما الأمثلة الأكثر حداثة للنمط الفيزيائي – الاستعدادي، فقد كان أصحابها أكثر قوة وإقناعًا في الدفاع عن وجهة نظرهم.

مقالات ذات صلة:

الجزء الأول من المقال

الجزء الثاني من المقال

الجزء الثالث من المقال

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ. د. صلاح عثمان

أستاذ المنطق وفلسفة العلم – رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة المنوفية