فن وأدب - مقالاتمقالات

تأثير الموروث الشعبي على النخب الثقافية .. الجزء الثالث

صنعت النخبة الثقافية من الموروث الشعبي زادًا جديدًا لها، ضخته في أوردتها المتيبسة أو المشرفة على التكلس فمنحتها الحياة والحيوية، أو وظفت هذا الموروث في خدمة أيديولوجية السلطة أحيانًا، فحولته من نتاج عفوي مفعم بالمعاني الحرة والقدرة على التحايل والتجاوز والتدافع، إلى جزء من الدعاية الصاخبة التي تصم الآذان، وبعضها أو أغلبها ينتهك المعاني التي عليها أن تثبت في وجه التغيرات الاجتماعية والسياسية المفروضة من أعلى، التي تصنعها ظروف قاهرة ليس للطبقة الشعبية أي دور في اختيارها.

لقد أثر هذا سلبًا على مضامين الموروث الشعبي التي ظلت قرونًا تُتَداول، وتكون الإضافة إليها نابتة منها ولا يدخل عليها شيء غريب. هذا التأثير السلبي لم يصنعه فقط التحوير الأيديولوجي لهذا الموروث ليكون تحت أمر السياسة، بل أيضًا، وكما ذكرت، سببه طغيان الفنون التي تنتجها النخبة على الفنون الشعبية، لما للأولى من سطوة الإلحاح والقدرة على الانتشار والإبهار والإزاحة.

ومع عصر الجماهير الغفيرة، صارت الثقافة التي تنتجها النخبة مبتذلة وسطحية لتجذب جمهورًا من المراهقين وأشباه المتعلمين، سواء إلى السينما أو الموسيقى أو الكتابة والصحافة، وأخذت العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة. وفرض عصر الجماهير هذا من ناحية أخرى وجوده، فأصبح بمكنة أبناء الشعب أن يفعلوا ما كان مقتصرًا على النخبة في زمن مضى. وفي ركاب هذا صعدت الثقافة الشعبية، وأخذت تفرض نفسها على البنية الثقافية العليا المتغلبة إعلاميًا، بعيدًا عن انتقاء النخبة وتحيزاتها واختياراتها كما كان يحدث سابقًا. وساعد على تحقيق هذا ظهور “وسائل التواصل الاجتماعي” على شبكة الإنترنت، التي أتاحت لكل شخص فرصة عرض ما يريد كيفما يشاء، وكلما كان ما يعرضه فظًا غليظًا جارحًا صادمًا زادت حظوظه في التداول والتناول والإقبال، ليس بين الشعبويين فقط، بل لدى أفراد النخبة أيضًا، الذين تساوقوا مع هذا اللون من الإنتاج الفني بفعل تراجع التعليم كيفًا وتريف المدن وتدهور القيم التي تعلي من شأن الرقي والإتقان والترفع.

جاءت مواقع التواصل الاجتماعي على شبكة الإنترنت لتزيد من سطوة الشعبوية، وتعطيها فرصًا مفتوحة لطرح فنها وأفكارها مهما كان مستواها، وهو توجه كانت له أسبابه القوية المستمرة، وأولها أن هذه المواقع وسعت كثيرًا من تمثيل صوت الناس في الحياة العامة، وفتحت الباب أمام حضوره الطاغي في مجتمع الفُرجة، وثانيها أنها أشكال من الفنون والآراء لا يحتاج طرحها وإبداؤها إلى أي جهد شاق يُبذل في التدريب والتعلم وصقل الموهبة، وثالثها أن دخول الناس إلى مجراها المتدفق لا يحتاج إلى وساطة، ولا يتطلب المرور بحواجز من الاختبار والانتقاء والاختيار، ورابعها أن التقنيات الفائقة التي أتاحتها الوسائل الحديثة وسعت من القدرة على التعبير، بالكلمة أو الرسم أو التمثيل أو الموسيقى وغيرها، ومنحته جاذبية قوية، والخامس أن هذه النوافذ المفتوحة على مصراعيها تمنح شهرة سريعة، وقد تدر على بعض منتجي الشعبوية هذه مالًا وفيرًا.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وإذا كانت ثقافة النخبة قد أصابتها شعبوية غير أصيلة، بينما الثقافة الشعبية الأصيلة قد جرحتها ثقافة نخبوية تلاعبت بها أو غطت عليها نسبيًا، فإننا صرنا في كل الأحوال أمام هجين له السطوة أو الغلبة، بحيث صارت القريحة الشعبية شبه معطوبة، فلا تنتج أساطيرها وحكاياتها القوية القادرة على تجاوز الأزمنة والأمكنة، ولا ثقافة النخبة برأت من تأثير شعبوية زاحفة، فتبادل الطرفان الإفساد، وصار الفن المغرق في الإبداع والتفرد عزيزًا، وبات الفن الشعبي ليس على رسوخه القديم.

بعد كل ما أُلقي في نهر الإبداع الأدبي والفني هذا من أسباب كافية لتلويثه، صار الحديث عن “ثقافة إلى أعلى” و”ثقافة إلى أسفل” بالمعنى الذي سبق شرحه محض شيء نادر أو حالة من الماضي، فلا المأثور الشعبي ظل على حاله من النقاء، ولا ثقافة النخبة صار بمكنتها التخلص من تأثير الشعبوية الزاحفة بقوة. وبدلًا من أن يتلاقى الاثنان ويمتزجان في مساحة هائلة من الإيجابية والتفاعل الخلاق، صار العكس، إلا ما ندر.

لا يعني هذا أن الملاحم والسير التقليدية قد راحت أو طمرها النسيان، لا سيما بعد أن سُجِّلت في كتب، ولم ينته بعد رواتها الوارثين، لكن قدرة المخيلة الشعبية على إنتاج سِيَر جديدة ربما تباطأ كثيرًا لأسباب عديدة، أكثرها يتعلق باستسلام القرائح الشعبية لما تصدره وسائل إعلام آتية من بعيد عن القرى والبيئات الاجتماعية التي تجري على سجيتها، وتنتج أساطيرها على مهل، وتعيد فيها وتزيد حتى تنضج وتقاوم الذوبان والنسيان.

على التوازي فإن النخبة وتحت لافتات تترسخ فنيًا من العجائبية والغرائبية والواقعية السحرية راحت تنتج أساطيرها الجلية في روايات وملاحم، تنتمي في بنيتها إلى الشكل الحديث من فن السرد، وصار بمكنة شعر العامية بمختلف ألوانه والأزجال كذلك مما تنتجه النخبة، أن يقتربا من الفن الشعبي في صورته الأولية.

لكن الانشغال بالآداب والفنون الشعبية لم يعد قاصرًا على النخبة الثقافية من منتجي الرواية والقصة والمسرحية والشعر والفيلم السينمائي والأغنية واللوحة المرسومة والنحت وغيره، بل صار جزءًا أصيلًا في الدراسات الاجتماعية والأنثربولوجية وعلم الاجتماع الديني، بل لا يمكن للعلوم السياسية والفلسفة أن تتفاداه إن أرادت أن تنتقل من التجريد إلى التجريب.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

إن هذا يؤكد في النهاية وحدة الثقافة الإنسانية، فما هو في الأسفل يصعد، وما هو في الأعلى يهبط، وليس النازل أفضل من الصاعد، ولا الصاعد أفضل من النازل، إلا بقدر إخلاص كل منهما لما يؤدي إلى تحسين شروط الحياة، فكم أنتجت النخبة فنًا وأدبًا رجعيًا، وكم أنتجت الطبقة الشعبية فنًا يدفع إلى الأمام.

مقالات ذات صلة:

الجزء الأول من المقال

الجزء الثاني من المقال

النهضة المجتمعية

اضغط على الاعلان لو أعجبك

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

اضغط على الاعلان لو أعجبك

د. عمار علي حسن

روائي ومفكر مصري

مقالات ذات صلة