النخبة وصناعة الوعي
ليس من شك في أن مصر تمر اليوم بظروف استثنائية قاسية للغاية، حيث مؤامرات عالمية تهدف إلى إسقاط الدولة عبر صناعة الجوع المتعمدة بطريقة أو بأخرى، وعبر عدة أذرع تمتد بالسوء إلى أرض الكنانة، سواء ذاك الضغط الذي يمارس علينا عبر سد النهضة، أو الضغط السياحي الذي يمثل أحد أهم مصادر الدخل القومي،
أو العبء الاقتصادي ممثلا في ديون متراكمة على الحكومات المتعاقبة، أو الضغط والعبء الداخلي حيث الغرق في مشكلات اجتماعية ذات جذور اقتصادية لا حد لها مثل التعليم والصحة والصرف الصحي وغيرها من المشكلات التي تجعل المشهد إلى حد ما ملبدا بالغيوم، ويجعل من قلوب المخلصين سفنا ذات أشرعة تحمل البلد إلى بر الأمان.
باتت الأزمة أخطر
ولكن هيهات هيهات لما يصفون، فالحرب التي تُمارس على مصر بكافة أذرعتها يشترك فيها أعداء من الخارج وعملاء من الداخل، وإن كنت على الدوام أحبذ عدم التشكيك في أحد حتى لا تمشي مصر على قدم واحدة فقط، ولكن عندما تمشي على قدم خير من ألا تمشي بفعل وإصرار المفسدين في الأرض، الذين ضل سعيهم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
يكفي أنهم وقود تلك الحرب القذرة ضد وطنهم، بوعي منهم أو بغير وعي، وبقصد منهم أو بغير قصد، فالنهاية واحدة، وهي خراب وطن بأيدي أبنائه أكثر من خرابه بأيدي أعدائه.
باتت المهمة اليوم أصعب ما يكون، لا مجال أبدا للمداهنات، ولا مجال أبدا لغض الطرف عما يحدث لمصر، نعم، مصر كما رآها عمرو بن العاص، تمرض ولا تموت، ولكن حتى هذا المرض لا نريده لأرضنا الطيبة، بل حتى مجرد أعراض المرض لا نريدها ولا نستسيغها ولن نقبل بها،
لأن مرض مصر يحمل في طياته مرض المخلصين لها والشغوفين بها، ويحمل بشريات الخير لمرضى القلوب وأرباب الضمائر العفنة والذمم التي استشرى فيها الفساد وأعمى أعينها عن الحق، مع كونهم يتحملون جزءا كبيرا من الخسارة، لأنها خسارة وطن –لا قدر الله– ونهاية حضارة انحنى لها العالم إعجابا وتقديرا.
الأزمة أخطر من أي حديث، أزمة شعب، عوام ومثقفين، نخبة وغير نخبة، أطفال وشيوخ، نساء ورجال، أزمة لا يعلم مداها إلا الله، كما لا يعلم عاقبتها أحد سواه، لا يوجد فيها رابح وخاسر، بل الكل خاسر يا سادة، إن لم يكن خسرانا ماديا، فعلى الأقل خسرانا معنويا يتمثل في خروجنا من التاريخ أو بدقة أكثر خروجنا من الحضارة الإنسانية، للسقوط في هاوية سحيقة لا يعلم مداها إلا الله.
ما الحل إذن؟
لا يوجد حل سوى العمل، الجد والإخلاص في الفعل ورد الفعل على كافة المستويات، الساسة والشعب، النخبة والعامة، فالكل في خندق واحد، والكل بانتظار ذات المصير.
وعلى النخبة اليوم أن تدرك أن دورها أصبح أشد وطأة من أي عصر مضى، فعليها يقع العبء الأكبر في صناعة المسؤولية القومية والأخلاقية وزراعة هذا الإحساس في نفوس الشعب، ولن يتسنى لهم إبلاغ تلك الرسالة إلا بأربعة شروط رئيسية، الأول الإعلاء من المصلحة القومية للوطن على المصالح الحزبية والطائفية والنرجسية،
والعمل على إتمام الاصطفاف الوطني الذي لا مناص منه ولا حل سواه، وأي بداية من غير بابه فلن تفلح أو تؤتي ثمارها، والثاني العمل على ردم هوة الصراع السياسي والفكري والديني والقضاء تماما على حالة الاستقطاب المتعمد وغير المتعمد والتي لا تصب في النهاية إلا في صالح الأعداء وحدهم، وتفت في عضد الوطن،
والثالث وضع خارطة طريق لصناعة نهضة قومية حقيقية توازن بين الممكن والواقع، بين الذات والموضوع، بين المثالية والإجرائية، بحثا عن مقومات فعلية يمكن تنفيذها والاستناد إليها، والرابع تعلم فقه الأولويات، لتقديم ما لا مناص من تقديمه وتأخير ما يمكن تأخيره، جدل المطلوب والمتاح، المواءمة بين الواقع والممكن قفزا فوق العقبات وإعمالا للعقل لا أكثر.
إن الحاجة باتت ملحة بشكل غير مسبوق لتحقيق هذه الشروط الأربعة عند النخبة، مراعاة لمصلحة الوطن العظمى، وتقديما لحياته وبقائه على كل منافع ذاتية أو مآرب فكرية أيديولوجية كانت أو حزبية، بحثا عن صف واحد، يربطه الإخلاص وتحكمه المصلحة العليا للوطن، لتصبح مصر هي المقصد والغاية، البداية والنهاية،
البداية حيث حضارة الأجداد، والنهاية حيث تكالب المؤامرات، لنتحول من ثقافة المفعول به إلى الفاعل، من المسكنة إلى القوة الفاعلة، كل ذلك مرهون بمدى إخلاص المصريين الذي لا يزايد عليه أحد، نخبة وعوام، ومرهون بمدى إرادة ووعي تلك النخبة، فهل يدركون المخاطر ويقدرونها حق قدرها؟ وهل يحدث اصطفاف وطني حقيقي تقدم فيه القومية على الذاتية؟ ذاك هو الحل، وليس من مخرج سواه، بقيت فقط إرادة المخلصين، وإخلاص المريدين.