العقل ومدارس الفلسفة الإسلامية .. الجزء التاسع
المدرسة المشَّائية: (7) الفارابي: المعلم الثاني وفيلسوف المسلمين
“آراء أهل المدينة الفاضلة” (3)
تحدثنا –صديقي القارئ صديقتي القارئة– في الدردشة السابقة (ج8)، عن المعلم الثاني: الفيلسوف الفارابي. إذ تعرفنا أولَ الآراء التي يجب على أهل المدينة –لكي تكون مدينتهم فاضلة سعيدة– أن يعرفوها عن سبب وجودوهم، ثم كيفية صدور العالم عنه تعالى: التفسير العقلي لوجود الكثرة (جميع الكائنات) عن الواحد (الأول). ولنواصل –في هذه الدردشة– بقيةَ حديثِنا عن الفارابي وكتابه “آراء أهل المدينة الفاضلة”. ولنعرض التفسيرَ العقلي لظاهرة النبوة، والذي يجب على أهل المدينة الفاضلة معرفته.
ب. الميتافيزيقا الفيضية: التفسير العقلي لظاهرة النبوة
إن العقل الحادي عشر، والأخير، في العالم السماوي؛ عالم ما فوق فلك القمر، في نظرية الفيض عند الفارابي، هو العقل الفعَّال (وهو العقل العاشر في العقول الثواني، بعد العقل الأول) والذي يتصل به كلٌ من الفيلسوف والنبي (لاحظ وحدة المصدر الذي يأخذ منه كل من الفيلسوف والنبي، ومن ثم وحدة المبدأ بين الفلسفة والدين)، الأول: أي الفيلسوف، يتصل بالعقل الفعَّال –عن طريق التعقل والمنطق العقلي– فتصير نفسُه عقلًا خالصًا، وتصير نفسه في –كما يقول الفارابي–: “جملة الجواهر المفارقة للمواد، وأن تبقى على تلك الحال دائمًا أبدًا، فتتحقق لها السعادة، إلا أن رتبتها تكون دون رتبة العقل الفعَّال”. والثاني: أي النبي، فالعقل الفعَّال هنا يكون بمنزلة ملاك الوحي جبريل عليه السلام، الذي يتلقى منه النبيُ الغيبَ.
اتصال الفيلسوف بالعقل الفعَّال عن طريق التأمل العقلي
سعادة الأنفس البشرية تكون في الاتصال بهذا العقل الفعَّال الذي هو مصدرها فتتأمله لكي تستحق الخلود، وتصير من الكمال في الوجود بحيث لا تحتاج في قوامها إلى مادة، وبحيث تنعم بتأمل الحقائق الأزلية في العقل الفعَّال. ويستطيع الفيلسوف، بفضل المنطق والتأمل العقلي، أن يرتقي حتى مصدر الحقائق الأزلية ويدركها بوضوح، أعني أن يدرك الصور العقلية القائمة في العقل الفعَّال، حتى يصبح هو نفسه عقلًا مجردًا من كل مادة.
اتصال النبي بالعقل الفعَّال عن طريق المخيلة
في الفصل الخامس والعشرين من كتاب آراء أهل المدينة الفاضلة، وعنوانه “القول في الوحي ورؤية المَلَك”، يقول الفارابي: “إن القوة المتخيلة إذا كانت في إنسان ما قوية كاملة جدًا، وكانت المحسوسات الواردة عليها من خارج لا تستولي عليها استيلاءً يستغرقها بأسرها، ولا أخدمتها للقوة الناطقة، بل كان فيها مع اشتغالها بهذين، فضل كثير تفعل به أيضًا أفعالها التي تخصها، وكانت حالها عند اشتغالها بهذين في وقت اليقظة مثل حالها عند تحللها منهما في وقت النوم، ولما كان كثير من هذه التي يعطيها العقل الفعَّال، فتتخيلها القوة المتخيلة بما تحاكيها من المحسوسات المرئية، فإن تلك المتخيلة تعود فترتسم في القوة الحاسة، فيصير –ما أعطاه العقل الفعَّال من ذلك– مرئيًا لهذا الإنسان، ولا يمتنع أن يكون الإنسان –إذا بلغت قوته المتخيلة نهايةَ الكمال– فيقبل في يقظته، عن العقل الفعَّال، الجزئيات الحاضرة والمستقبلة، أو محاكياتها من المحسوسات، ويقبل محاكيات المعقولات المفارقة، وسائر الموجودات الشريفة ويراها، فيكون له –بما قَبلَه من المعقولات– نبوة بالأشياء الإلهية”.
الفارابي كشف الفرق بين الفيلسوف والنبي
إذن النبي هو من ذوي المخيلة القوية التي، بالرغم من اشتغالها بما يقدمه الحس والعقل، يبقى لمخيلته مزيد من القوة التي تجعلها متحررة في حالة اليقظة، كما تكون متحررة في حالة النوم، وحينئذ تعكس مخيلته الآراء التي يشرقها عليها العقلُ الفعَّال، وهذا نوع من النبوة، وهو أكمل المراتب التي تنتهي إليها القوةُ المتخيلةُ البشرية.
لقد حاول الفارابي –كما يقول سيد حسين نصر– أن يجمع بين شخصية الملك الفيلسوف الأفلاطونية، وشخصية النبي الشارع في الأديان الإبراهيمية، ووصف المدينة الفاضلة التي تهيمن فيها شريعة سماوية واحدة على العالم كله.
في الدردشة القادمة –بإذن الله– نواصلُ بقيَّةَ حديثنِا عن فلسفة المعلم الثاني: الفارابي، وكتابه: “آراء أهل المدينة الفاضلة”، وفيها نتعرف وصفه للمدينة الفاضلة.
مقالات ذات صلة:
الجزء الأول من المقال، الجزء الثاني من المقال
الجزء الثالث من المقال، الجزء الرابع من المقال
الجزء الخامس من المقال، الجزء السادس من المقال
الجزء السابع من المقال، الجزء الثامن من المقال
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
*********
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا