علم نفس وأخلاق - مقالاتمقالات

العنف المقدّس .. الجزء العاشر

ادّعاء التّميّز والمرض النّفسيّ

وصل بنا الحديث إلى أن التميز بالعمل الشرعي يقع حلقةً داخل سلسلة متوالية الحلقات، إذ إن هذا الادّعاء للتميز بالعمل الشرعي، نتيجةٌ لسبب سابق عليه هو ادّعاء التملك للعمل، ثم يغدو هذا الادعاء للتميز بالعمل الشرعي، سببًا محفّزًا لعدد من الآثار التي تظهر في تصورات وأفعال الإنسان المدّعي لهذا التميز بالعمل.

بيد أنني –وقبل الشروع في استقصاء هذه الآثار الناتجة عن ادعاء التميز بالعمل الشرعي– أودّ أن ألفت الانتباه إلى هذا التحوّل الخطير في طبيعة التميز داخل هذه السلسلة التي نظمت حلقاتها الآن، إذ إن التميز بالعمل الشرعي وفق حلقات هذه السلسلة المتوالية له طبيعتان وفق علاقته مع حلقات تلك المتوالية، على النحو التالي:

الطبيعة الأولى: يكون فيها نتيجةً لسبب سابق عليه؛ ادعاء التملك للعمل الشرعي.

الطبيعة الثانية: يكون فيها سببًا لآثار تنتج عنه، وتظهر تلك الآثار في تصورات العامل وأفعاله على نحو ما سأفصل.

إن الفرق بين الطبيعتين يكمن في كون التميز بالعمل الشرعي، كان ضمن الطبيعة الأولى نتيجة تقع في دائرة الوعي، ثم أصبح ضمن الطبيعة الثانية سببا لنتائج لا تقع في دائرة الوعي.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

بمعنى أن هذا التميز المدّعى بالعمل الشرعي في طبيعته الأولى التي ينتج فيها عن ادّعاء التملك، يقع في دائرة الوعي والشعور عند الشخص المدّعي للتميز، وآية وقوعه في دائرة الوعي أنّ صاحبه لا يتردد في إعلان هذا التميز بشكل أو بآخر وجني ثماره، لكن هذا التميز المدّعى بالعمل الشرعي في طبيعته الثانية –التي يكون فيها سببا لفساد فكر الشخص وأفعاله– يقع في دائرة اللا وعي واللا شعور، وآية وقوعه في دائرة اللا وعي أن صاحبه لا يمكن أن يعلن فضلًا عن أن يدرك، أن إحساسه بالتميز بالعمل يؤثر على رؤيته للموضوعات التي يجيل فيها نظره، فيجعل نظره دومًا مثلومًا من خلال اتسامه بصبغة اندفاعية ذاتية لا موضوعية متريثة.

عدم الوعي بالرابطة بين التميز بالعمل الشرعي بوصفه خللًا وبين آثاره العنيفة التي تنتج عنه بوصفها أعراضًا لذلك الخلل من قبل الشخص العنيف، يجعل العنف مرضًا نفسيًا عضالًا، إذ إن هذه سمة الأمراض النفسية من جهة أن الرابطة بين الخلل النفسي الداخلي وبين ما ينتج عنه من آثار سلوكية خارجية، عادة لا تكون في متناول وعي صاحبه، ما ينقل بحث مسألة العنف برمتها من نطاق الأفعال العقلية التي تبحث على طاولة المحلّل العلمي، إلى نطاق الأفعال النفسية التي تعالج في عيادة الطبيب النفسي.

فالشخص العنيف فيما يأتيه من تصرفات عقلية وسلوكية يكون دومًا مغيّبًا عن جذرها الذي أثمرها فضلًا عن عوارها الذي أصابها، وسبب تغيّبه عن ذلك أن ادعاء التميز بالعمل صار حافزًا نفسيًا لا شعوريًا للعنيف، يوجه حركة تفكيره ويصوغ أفعاله، من ثم تصير الموضوعات التي ينظر فيها –بما تحمله من قيم شرعية أو عقلية– ليست الموجِّهة لحركة تفكيره وأفعاله، بقدر ما تغدو هذه الموضوعات وما تحمله من قيم موجَّهةً، بالفتح، من قبل نفس العنيف، أي أنها تصير وسيلته لإثبات تميز نفسه المدّعى والتمكين لاختيارات هذه النفس، سواء أكانت اختيارات عقلية أم كانت شرعية، فتصبح القيم الشرعية والعقلية مركوبةً لا راكبةً، مقودة لا قائدة، وسيلةً لا غايةً، قابلة للاختزال والتعطيل، وهو ما ينشئ في عقله مصفوفةً مختزلة من الأفكار البسيطة، التي توافق قناعاته البسيطة وتصوّراته الساذجة للأمور أكثر مما تتطابق مع الواقع وتعقده، من هذه المصفوفة تنبثق مواقفه من كل شيء يدور حوله على كل المستويات الوجودية: الاجتماعية، والشعورية، والدينية، والسياسية، والعلمية، على نحو ما سنعرف لاحقًا.

وهو ما يؤذن بصبغ كل ما يصدر عنه تجاه هذه المستويات بصبغة نفسية غضبية لا روحية عقلية، بمعنى أن أفعاله الصادرة منه تأتي متسمة بالاندفاعية وعدم التريث، شأن الأفعال التي تصدر عن النفس دومًا، إذ إن أفعال النفس غاشمة، تأمل: قوله تعالى: “فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30)”، المائدة، قال تعالى: “نفسه”، فالعنف بكل درجاته يأتي دومًا من النفس، بخلاف أفعال الرّوح فهي راحمة، إذ إن الروح في ذاتها مشرّفة لا فجور لها، لذلك أضافها الله إلى ذاته سبحانه إضافة تشريفٍ لها، فقال: “وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي (29)”، الحجر.

لنخلص من كل ذلك إلى: أن العنف داء نفسي عضال، لا يسهل البرء منه إلا بالتخلص من أسبابه النفسية المؤدية له، التي تتركز في ادعاء تملك العمل الشرعي والتميز به.

بعبارة موجزة: بقدر ما ننتصر لأرواحنا على أنفسنا، نلطف ونصح نفسيًا، وبقدر ما ننتصر لأنفسنا على أرواحنا، نعنف ونمرض نفسيًا.

العنيف والرغبة في تثليث المربّع شعوريًا واجتماعيًا

المرض النفسيإن الإحساس بـ”التميز” بما هو اقتطاع وعزل للعامل ومن يتطابق معه، يتجلى شعوريًا من خلال تركيز عاطفة الحب والتعاطف في دائرة الذات ومن يتطابق معها، وفي المقابل سحب هذه العاطفة من الواقعين خارج هذه الدائرة، ما يجعل الآخرين بالنسبة إلى هذا المتميز ليسوا أهلًا للحب بقدر ما هم رموز لكل شر وبلاء.

هذا النزوع لاختزال الإنسان في بعد من أبعاده –سواء أكان هذا البعد حسنًا أم كان سيئًا– يسميه علماء النفس عملية التشيئة، وهي عملية تحويل للإنسان من حالة حية تجمع بين الخير والشر إلى حالة جماد (شيء)، ليس له إلا سمة واحدة، إما خير وإما شر، فيظلم هذا العنيف مرتين: الأولى: حينما تجاهل أن الإنسان حالة متكاملةٌ تجمع بين الخير والشر، الحب والبغض، وردّ هذه الحالة إلى وجه واحد، الثانية: حينما احتفظ لنفسه ومن يحب بالحسن كله، وجعل السوء كله للأغيار، فما أظلمه!

ما فعل العنيف تلك التشيئة الجاهلة إلا ليصل إلى أن المعنوف بهم مستحقون لإيقاع العنف على اختلاف درجاته بهم، ما دام أنهم خرجوا عن مطابقة هذا المدّعي للتميز، من ثم لا يرى العنيف –بعد تلك التشيئة– في فعله ظلمًا غير مستحق، إنما العدل الكامل في مواجهة هؤلاء المنبوذين من قِبَله، ولا يرى في تصوراته جهلًا، إنما الحكمة التامة في مواجهة هؤلاء الخارجين عن دائرته.

إن ناتج تلك الحالة الشعورية تكريس الكراهية الاجتماعية بين أفراد المجتمع، وقطع جسور التواصل والتفاهم، وترسيخ علاقات العداء والحذر والتنكر لكل ما يجمع الجماعة الأم، وهو ما يدمر نسيج المجتمع وينقض عراه، وتأخذ هذه الكراهية الناشئة بين أفراد المجتمع جرّاء تلك الحالة الشعورية درجتين، الأولى: ظاهرة مجاهرة لا تظهر إلا في أوقات الشدة والاضطراب المجتمعي، والثانية: وهي الأخطر في رأيي، الكراهية المتسترة لبقية أفراد المجتمع الواقعين خارج دائرته العاطفية، وسبب شدة خطورتها أنها تمثل البيئة الحاضنة لـ”قابلية العنف” التي تعني الاستعداد الدائم لإيذاء الآخر، فتجعل هذه الكراهية المتسترة المبتلى بها دومًا على استعداد لإيذاء كل من يختلف معه لأهون الأسباب.

إن هذه القابلية للعنف التي تنشئها الكراهية المتسترة، أخطر وأنكى من مظاهر العنف القوية الظاهرة، إذ إن مظاهر العنف الظاهرة قد تزول إذا ما ضيّق عليها، وتلك القابلية للعنف لا تزول، لخفائها باستحكام أسبابها –التي منها الكراهية المتسترة– من النفوس، وهذه الكراهية بدرجتيها نتيجة حتمية لمفاعيل الاستعلاء بالذات والاحتقار للغير، التي تعتمل بداخل العنيف تجاه الآخرين، تلك المفاعيل التي انبثقت بالأساس من وهمَيْ: تملك العمل الشرعي، والتميز المدّعى به.

إن المتأمل في موقف العنيف الشعوري والاجتماعي –حيث رغبته في اختزال عاطفة الحب التي جعلها الله لحمة هذا الكون وأساسه وتركيزها في دائرة اجتماعية ضيقة– يجد أنه أشبه بمن يريد تثليث المربع، أي: من يريد جعل المربع مثلّثًا، إذ إن موانع شرعية أخلاقية وأخرى اجتماعية لا تقرّه على هذه الإرادة.

أما الموانع الشرعية الأخلاقية فهي أن الدين لا يمكن أن يُنبت حياةً روحيةً سليمةً تصل بصاحبها إلى الله بالتخلّق بأسماء الله وصفاته ضمن سياق الكراهية، ومناخات السب واللعن التي تسيطر على أهل العنف، وقد بيّن النبيّ (صلى الله عليه وسلم) ذلك حينما قال عن البغضاء أو فساد ذات البَين: “هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين”.

أما الموانع الاجتماعية فهي أن الحياة لا يمكن أن تعاش بكل هذا الكم من الكراهية إلا في عقول المجانين، إذ إن الذات الإنسانية محكومة بالتواصل مع الآخرين، إلا أن هذا المتميز ألغى كيان الآخرين الذين نصنع معهم وجودنا، وركّز تواصله مع أهل دائرته الضيقة فقط، من ثم صارت العلاقة بينه وبين الدائرة الأم والأكبر علاقة في اتجاه واحد: تسير منه إليهم، بمعنى أنهم دومًا مادة عمله ونقده، أما هو فلا يراجع نفسه، وهم موضع صبّ جام غضبه وعنفه أما هو فلا لوم عليه.

إن عدم وعي العنيف بحتمية الألفة والتواصل دينيًا واجتماعيًا على هذا النحو، يجعله دومًا يعاني أزمة نفسية طاحنة، إذ إنه يشعر بتناقضٍ حادٍ بين سلوكه الخارجي حيث ضرورة إبداء الألفة للآخرين اجتماعيًا ودينيًا، وحقيقة مشاعره الداخلية حيث كم الكراهية الكبير الذي يكنه للآخرين شعوريًا بسبب تدينه المريض، وهي الأزمة التي يسعى العنيف للقفز عليها وتسويغها لنفسه الجاهلة من خلال نصوص وآثار يلوي عنقها ليًّا، ويعوّل عليها كثيرًا، مثل: “إنا نبشّ لأقوامٍ وقلوبنا تلعنهم”، وغيره من الآثار التي يداوي بها هذه الأزمة، ليستمرئ هذا التناقض الأصيل بين ظاهر سلوكه وحقيقة مشاعره، وهي آثار –بغض النظر عن مسألة ثبوتها، وإن كانت مسألة غير هينة– لا تشير إلى حالة دائمة عند المشرّع (صلى الله عليه وسلم)، بقدر ما تشير إلى اعتبارات مقامية طارئة لا ترقى لأن تصير أصلًا في التعامل مع الناس، وكان الأولى بالعنيف أن يراجع نظره، ويخرج من هذه الحدّيّة الشعورية المفرطة: “إما معي وإما ضدي”، وأن يحاسب نفسه، ويعرف أنّه شريك اجتماعي للآخرين بوجه أو بآخر، وأن اختلافه الديني معهم، على فرض صحة رأيه الديني جدلًا، اختلاف جزئي في الدرجة ولا يصل إلى اختلاف كلي في النوع.

فرفقًا يا قوم إنه مربّعٌ فلا يمكن أن يثلّث، لا يمكن أن يثلّث..

القادم هو استقصاء أثر ادعاء التميز بالعمل الشرعي على المستوى العقلي.

مقالات ذات صلة:

الجزء الأول من المقال، الجزء الثاني من المقال، الجزء الثالث من المقال

الجزء الرابع من المقال، الجزء الخامس من المقال، الجزء السادس من المقال

الجزء السابع من المقال، الجزء الثامن من المقال، الجزء التاسع من المقال

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د . أحمد عزت عيسى

مدرس بكلية دار العلوم جامعة القاهرة، قسم النحو والصرف والعروض