إصداراتمقالات

المجتمع وأزمة المنهج المعرفي …كيف نصل الى المعرفة

المجتمع وأزمة المنهج المعرفي …كيف نصل الى المعرفة

فلنبدأ بالأشياء المبهجة في هذه الحياة…

الكون منظم بشكل بديع ومتزن, وجسم الإنسان مثلاً يتكون من أعضاء معقدة ومنتظمة الأداء, وعلاقات البشر مع بعضهم البعض وتكاملهم مع باقي المخلوقات من حيوان ونبات وجماد كلها لوحات بديعة متقنة, ولكن المبدع في الإنسان ليس فقط جسمه, ليس فقط وجوده المادي الذي يشبه الحيوان من جهة الأكل والشرب والزواج والغضب والخوف, لكن الأكثر إبداعًا فيه هو عقله, عقله الذي تشرف به على باقي المخلوقات, فأنتج صنوفًا مختلفة من المعرفة في كل المجالات, في الفلسفة والسياسة والاقتصاد وعلم النفس والتاريخ والجغرافيا والفيزياء والطب والأدب.

ليس هذا فقط بل توسع إلى ما وراء المحسوسات, ما وراء العالم المادي, فتكلم عن الروح, وعن الملائكة, وعن الإله  وصفاته وعن حياة أخرى بعد الموت.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

إذن هذه القوة المبدعة في الإنسان أنتجت ومازالت تنتج كما كبيرا ومتنوعا بل ومعقدا من المعارف المختلفة, ومع تطور وسائل الاتصال أصبحت معظم هذه المعرفة متاحة بصورة سهلة وسريعة لأغلب الناس … و لكن, للأسف الصورة ليست بهذا النقاء, فمع طغيان الأطماع والأهواء والتعصب والكره للآخر, أصبح جزء كبير من المعرفة موجه وله أهداف غير سعادة الجنس البشري, أصبح يُسخر لخدمة القائلين وليس لخدمة المتلقين, فاختلطت المعرفة الصادقة بالكاذبة, واختلط الهام بالتافه, واليقيني بالظني.

ليس هذا فقط, بل إن المعرفة تأتي غالبا في صورة عدوانية, صورة هجومية, فالإعلان أوالخبر التليفزيوني مثلا يأتي في شكل صور مؤثرة تصاحبه موسيقى عاطفية وكلمات تتحرك سريعا على الشاشة يقرأها شخص بصوت عميق. لماذا كل هذا العناء ؟ لأن الهدف ليس تقديم المعرفة بل الهدف أن تصدق أنت هذه المعرفة, مهما كانت صادقة أو كاذبة أو مهمة أو تافهة. فالإنسان بطبيعته لا يتلقى المعلومات بشكل سلبي, بل يستعمل عقله لفهم هذه المعلومات ومن ثم يحكم عليها, هذا هو التفكير المنطقي , التفكير الفطري السليم , أن نفهم ما نسمع ثم نطلب الدليل, فإن اقتنعنا صدقنا وإلا تركنا و رفضنا, هذا ما نراه في طريقة تفكير الأطفال الفطرية السليمة, فهم دائموا السؤال …

يعني إيه “كذا” ؟ و ليه ؟, فهم للمعاني ثم طلب الدليل.

إذن لكي نسيطر على هذا العقل المقاوم يمكن اتباع أحد هذه الوسائل:

  1. بما إن الإنسان ليس فقط عقل, بل هو عاطفة أيضًا, و حيث أن هذه العاطفة لا تسأل “يعني إيه وليه”, إذن فلنقوي و ننمي هذه العاطفة حتى تطغى على العقل. وأكثر عواطف يتم إثارتها هي الخوف والطمع والتعصب.
  2. أيضًا الإنسان ليس فقط عقل وعاطفة, بل هناك قوة الخيال, والخيال قوة مبتكرة تستطيع تجاوز الواقع, فهي تستعمل الصور الحسية كمادة خام وتصنع عالما مثاليا لا يوجد في هذه الدنيا, مثل الحبيب أو الحبيبة الخيالية, السلعة المثالية, بعد التخرج سأعمل وسأعيش في منتهى السعادة,

إذن الهدف هو هزيمة العقل بالعاطفة أو خداعه بالخيال, ولكن هذه الوسائل مكلفة ومرهقة, أليس من الأولى هزيمة هذا العقل هزيمة نهائية ؟ كيف ؟

اضغط على الاعلان لو أعجبك

أولاً:بإغراق الإنسان بالمعلومات, فلا يجد العقل الوقت الكافي للسؤال … “يعني إيه وليه”, شريط الأخبار و الخبر العاجل وإعادة الخبر صوتًا ونصًا وصورة, والأخبار على النت والإعلانات في الشوارع و و و …

لن يكون هناك مجال للفهم أو طلب الدليل.

ثانياً:بالأخبار الظنية التي مهما استغرق العقل في تحليلها, لا يستطيع التأكد منها, لأنها لا تحتوي على الحقيقة كاملة. فمين قال إيه لمين وإمتى و ليه؟!. فلتستغرق العقول في التفسير والتحليل حتى تنهار وتنتقل إلى إطلاق النكات أو سب هذه الدنيا المعقدة.

إذن لنُجمل الصورة …

الإنسان فاعل مختار, يعيش وسط بيئة عدوانية فوضوية من المعرفة, وسط كون بديع و متزن و منظم,  إن من المؤكد أن من خلق الإنسان لم يخلقه ليعذبه, بل لكي يصل الإنسان بمجهوده وأفعاله للسعادة, وإن سعادته الحقيقية لا تعتمد على أفعال الآخرين وإلا أصبح ذلك ظلمًا, و لكن تعتمد سعادته على سلوكه هو.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وأيضاً من المؤكد أن السلوك يحتاج إلى معرفة, مثلا هل الكذب فعل حسن أم سئ, هل السرقة تصل بالإنسان إلى السعادة أم لا, هل التعليم مفيد أم لا, هل يصلي ويصوم أم لا, هل ينتخب هذا الشخص أم ذاك ؟؟؟

إذن … كيف نعرف؟

قبل الإجابة يجب أن لا ننسى أننا في بيئة عدوانية, فلنحذرمن العاطفة والخيال, ولنحترس من الانخراط في الأمور الظنية والجزئية, ثم لنحمل ميزانا أو كاشفا يكشف لنا الأفعال الصحيحة من الخاطئة.

يبقى السؤال … كيف ؟ ما هو هذا الميزان ؟

فلنجرب كل شئ بأنفسنا حتى نتأكد من النتائج, فلا سبيل لمعرفة نتائج الأفعال إلا بتجربتها,ولكن هل نستطيع تجربة كل شئ في هذه الحياة القصيرة للوصول إلى السعادة؟

اضغط على الاعلان لو أعجبك

هل نحتاج إلى وضع يدنا في النار لنعلم أنها محرقة ؟

لا, العاقل لا يحتاج إلى ذلك, العاقل هو من يتعظ من أخطاء الآخرين, إذن فلنبحث في تجارب الآخرين والأيدولوجيات المختلفة ونرى هل نجحت أم لا, كم أيدولوجية موجودة في هذه الدنيا نحتاج لمعرفتها و دراستها؟ آلاف !!!

هل كل من ادعى أنه يتبنى أيدولوجيا معينة هو فعلا طبق ما ادعاه؟ فلنبحث في التاريخ, و لكن من كتب التاريخ؟ أليس هو المنتصر القوي ماديا ؟ هل كل منتصر كان أمينا في كتابته للتاريخ ؟ إذا كانت أغلب الأحداث الحالية ظنية فكيف بالأحداث التاريخية ؟

هناك مشكلة أخرى, فالأيدولوجيات المختلفة ليست بمجملها خاطئة, فالاشتراكية مثلا نادت بالعدالة الإجتماعية ولكن أخطأت في جوانب أخرى, فمن سنن الكون أنها ستقطف ثمار ما أصابت فيه و ستعاني نتيجة أخطائها.

أيضا هل ما نجح بالأمس يجب أن ينجح اليوم مع تغير الظروف ؟

إذن آلاف الأيدولوجيات, التاريخ ظني في الأغلب, الأيدولوجيات أغلبها أنصاف نجاح, التطبيق يمكن أن يتغير مع اختلاف الزمان والمكان,

ليس أمامنا بديل, فلنتقدم …

فلنتخيل شخصين يتجادلان, هل الكذب صحيح أم خاطئ, شخص يتبنى أيدولوجيا إلهية والآخر نفعي باراجماتي, كيف سيكون الحوار, كيف سيحكمون هل الكذب يؤدي إلى السعادة أم إلى الشقاء؟

الأول سيقول إن الكذب مصيره العذاب بعد الموت, و الآخر يقول لا, لا يوجد عذاب, الكذب سيوصلك مباشرة للسعادة, فالكذب ينقذك من العقاب, يرد الآخر, لا ليست هذه هي السعادة, السعادة الحقيقية هي السعادة الدائمة بعد الموت, لااااااااا, السعادة إنك تهرب من العقاب في الدنيا !!!

و يستمر النقاش عن الكذب أو الربا أو تطبيق الشرع أو أو أو ….

هل هناك سبيل للاتفاق؟ هل هذا نقاش مثمر ؟

أليس من الأولى أن نبحث في مصدر الأيدولوجيا قبل البحث في الأيدولوجيا نفسها ؟ أليس من الأولى أن نبحث في الرؤية الكونية (ما هو كائن) قبل البحث عن ما يجب أن يكون ؟

ما معنى السعادة ؟ ما معنى نجاح الأيدولوجيا ؟ ماذا يوجد في هذا الكون ؟

من أين أتيت ؟ و ماذا أفعل في هذه الحياة؟ و أين سأذهب بعد الموت ؟

حسنا …. كم فلسفه أو دين في هذه الدنيا ؟ مئات أو ربما آلاف,

يبقى السؤال … كيف نختار ؟

هناك طريقين للإختيار:

إما الاختيار الاستحساني , الاختيار الذي يعتمد على الذوق أو الإعجاب العاطفي, فالمعتقد بهذه الطريقة يختار معتقداته كما يختار ملابسه أو طعامه, وهذه طريقة خطيرة ولها عواقب وخيمة, أو أن يكون متعصبا لأسرته ومجتمعه, فيتبع اعتقاداتهم ويسير في ركبهم, وهذا اختيار العاجز الأسير.

أما الطريقة الثانية فهي الاختيار الموضوعي المبني على وعي ومنهج واضح. هنا نصل للنقطة المفصلية … ماذا يعني المنهج المعرفي ؟

المعرفة لها أدوات مختلفة, وهي الحس و التجربة والعقل والنص الديني والإشراق (الفيض القلبي), و المنهج المعرفي هو دراسة … ما هي أدوات المعرفة وما هي اختصاصات كل أداة وكيف نستخدمها , وهل نستخدم كل هذه الأدوات أم نكتفي ببعضها ؟

ولتوضيح ذلك سنذكر مثالين:

الأول:  شخص يسير في الصحراء, هو يسير في النهار و يتوقف في الليل,

فعندما نسأله: لماذا لا تسيرفي الليل, يقول لك: بسبب الظلام, لا أستطيع أن أرى, نقول له: ألم تنظر إلى ما تحويه حقيبة ظهرك التي تحملها ؟ ألا تدري أنك تحمل منظارا ليليا ؟ يقول لك: لقد نظرت بهذا المنظار وكاد أن يعميني, فنسأله: هل استخدمته بالنهار أم بالليل ؟ بالنهار ؟ ألم تقرأ “الكتالوج” قبل الاستخدام ؟ هل يعني عدم استخدامك للأداة إستخدامًا صحيحًا أنها أداة فاشلة؟ ادرس الكتالوج أولا ثم احكم.

الثانى: في عصر النهضة كان ما يزال هناك سيطرة شبه كاملة من الكنيسة على المعرفة, و ظهر عالم وراهب يسمى جاليليو وبالمشاهدة والتجربة أثبت أن الأرض تدور حول الشمس, عكس ما كان يقوله نص الإنجيل بأن الأرض مركز الكون, لكن بسبب رفض الكنيسة لأي مصدر آخر للمعرفة غير التفسير الحرفي للنص المقدس, فقد تم محاكمة جاليليو ووضعه رهن الإقامة الجبرية رغم صحة ما وصل إليه بالتجربة.

ألم يكن من الأولى دراسة أداة النص المقدس وتحديد حدود استخدامها, ألم يكن من الأولى دراسة حدود الحس و التجربة كأدوات أخرى للمعرفة ؟

هل يمكن للخالق الحكيم أن يخلق أداة معرفية ليست بذات قيمة ؟

أم هل يمكن أن يخلق أداتين للمعرفة لهما نفس الاستخدام ؟

هل من الحكمة أن تعطي تلميذًا قلمين للإجابة في الامتحان وهو يكفيه قلمًا واحدا ؟

إذن بعد هذا التوضيح, ألا نشعر بعمق أزمتنا المعرفية, ألا يكفي ما ضاع من وقت و جهد للنقاش حول أحداث جزئية أو في تطبيقات غير مدروسة لأيدولوجيات مستوردة؟

فبناء المعرفة يجب أن يبدأ بقواعد متينة راسخة, و لا قواعد أفضل من منهج صحيح للمعرفة يعرف أدواتها و يبرع في استخدامها.

لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.

ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.

أحمد عثمان

باحث ومحاضر بفريق مشروعنا بالعقل نبدأ

مقالات ذات صلة