مقالات

المادية هلاك للإنسانية – الجزء الرابع

التطور والحرية

نستكمل في هذا المقال أسباب النزوع نحو المادية في المجتمعات الغربية والذي أدى بالغالبية منهم لرفض فكرة وجود خالق أو تهميش دوره في الوجود، والنتائج التي ترتبت على ذلك فيما بعد إلي إنكار كل ما ليس مادي أو انفاك العلاقة بين القيم الغيبية والحياة الإنسانية. ومن جملة المسائل التي أدت إلى هذا التوجه نحو المادية، كانت نظرية التطور والنظرة للحرية الإنسانية.

كانت نظرية التطور قديمة وشائعة في الأوساط الفلسفية منذ اليونان القديمة، فلماذا اكتسبت أهمية قصوى مع “داروين” وبعده؟

أسباب اكتساب النظرية الأهمية مع داروين

لهذا عدة أسباب، منها أن داروين قد دعم طرحه بملاحظات علمية جمعها من رحلته حول العالم، فأعطى للنظرية بُعدًا علميا. ومنها -وهو الأهم- هو أن الظروف الفكرية كانت مهيأة جدا لنظرية “داروين” ؛ فكثير من الأفكار عندما تُطرح في ظروف معينة يتم مقابلتها بالرفض، لكن عندما تعرض في ظروف أخرى تلقى تأييدًا وصدى واسعًا، فحتى نظرية دوران الأرض حول الشمس لا العكس نظرية قديمة أيضًا اكتسبت زخما واسعا أيضًا في العصر الحديث.

فقد جاء “داروين” والفلسفة المادية تقطع خطوات واسعة للهيمنة على الساحة الفكرية بل وعلى الحياة ككل في الغرب، وكانت الفلسفة المادية بحاجة لنظرية تفسر نشأة الحياة بعيدا عن النظريات الإلهية، كما كانت في حاجة لأن تكون هذه النظرية مدعومة بملاحظات حسية وتجريبية للتوافق مع منهج الفلسفة المادية الصاعدة، وكان “داروين” هو من قدم هذه النظرية فاحتل مكانته واكتسب سمعته المعروفة عالميًا الآن.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

و “داروين” قد أخرج نظرية التطور في كتابه “أصل الأنواع – 1859” ثم أيَّدها بكتاب عنوانه “تغير الحيوان والنبات في حال الدجن -1868” ثم طبقها على الإنسان في كتابه “تسلسل الإنسان والانتخاب الطبيعي- 1871” وعالج على مقتضاها مسائل نفسية في كتاب “التعبير عن الانفعالات في الإنسان والحيوان – 1872.

التطور في العصر الحديث

وقد قال عدد آخر من الفلاسفة في العصر الحديث بالتطور أيضًا. يقول “لا مارك”: “البيئة بتربتها وغذائها ومناخها تولد في الحيوان حاجات مختلفة، فيبذل مجهودًا لإرضاء حاجاته، وينتهي مجهوده المتصل إلى تعديل الأعضاء، بل إلى نقلها من موضع إلى آخر من جسمه؛ فإن استخدام العضو يُنمِّيه، وعدم استخدامه يهزله أو يضمره بالتدريج، والوراثة تنقل العضو على حاله من النمو أو الهزال أو الضمور.

وممن قال بالتطور أيضًا في العصر الحديث “هربرت سبنسر” بل وفسَّر الأخلاق الإنسانية والتجمعات الحضارية بالتطور أيضًا: “إن الخلقية هي هذه السيرة في المراحل الأخيرة من التطور. ولما كان قانون تطور الكائن الحي الملاءمة بينه وبين بيئته، كما نشاهد في سلم الأحياء، كانت السيرة الإنسانية أو الأخلاق جملة الأفعال الخارجية المتجهة مباشرة أو بالوساطة إلى صيانة الحياة وتنميتها.

ومن شأن تطور الإنسان وتقدم الحضارة تقسيم العمل بين الأفراد واستفادتهم بعضهم من بعض، فالتعاون الاجتماعي شرط ضروري لنمو الحياة الفردية، لأن به يتمكن كل فرد من تحقيق غايته الخاصة

إمكانية التطور:

“نظرية تطور الأحياء” هي نظرية تقول إن الكائنات الحية لم تنشأ بشكلها المعقد الحالي مرة واحدة بل تطورت من موجودات أبسط منها، فهل هذا ممكن الحدوث؟!

اضغط على الاعلان لو أعجبك

نعم، لا يوجد أي مانع عقلي من إمكانية التطور بهذا الشكل، بل كل نظريات نشأة الحياة أو الخلق تتحدث عن فكرة مشابهة، مثل نشأة الحياة من الماء، أو نشأة الإنسان من الطين وغير ذلك.

فكل النظريات التي تحاول تفسير نشأة الكائنات الحية تقول بنشأة المعقد من البسيط، وهذا مبني أصلا على قاعدة عقلية بديهية، حيث إن وجود المركب يستلزم وجود البسيط الذي يتكون منه أولا، فلكي تبني منزلا تحتاج أولا امتلاك الطوب والإسمنت مثلا، وهكذا.

والاتجاهات العقلانية الإلهية ترى أن الفاعل الأساسي في الكون هو الإله، لكنه -كما هو واضح- يوجد بعض الأشياء عبر سلاسل من الأسباب. لقد حاولت الفلسفة المادية كثيرًا أن تفسر نشأة الكون والحياة بدون إله، وقد عجزت عن هذا بشكل مستمر، ومثال ذلك طرحهم المغلوط لنظرية التطور.

الحرية:

كما نجد من جوانب النزوع نحو المادية هي جدلية “الحرية”، ووجودها وحقيقتها وحدودها، حيت نجد أن أفرادًا مثل “جان بول سارتر” قد ضاعوا في تعقيدات هذه المسألة ولم يستطيعوا التوفيق؛ فإنهم أنكروا الله بعد أن ركزوا على الحرية الإنسانية.

يقول سارتر ( لأني أعتقد وأؤمن بالحرية؛ فإني لا أستطيع أن أكون مؤمنًا معتقدًا بوجود خالق؛ لأنه لو قبلت بذلك فلا مفر من قبول القضاء والقدر، ولو قبلت القضاء والقدر لم يمكن أن أختار حرية الفرد؛ لأني أريد اختيار الحرية وأؤمن واعتقد بها فلست مؤمنا بالله. )

اضغط على الاعلان لو أعجبك

هنا يجب أن نوضح قصور هذا الفهم أيضا:

يرتبط مصطلح الحرية بمصطلحات أخرى مثل الاختيار والقدرة والإرادة.

فالإرادة هي صفة تخصص فعل المُدرِك بأحد الوجوه الممكنة لهذا الفعل، فعندما يدرك الإنسان وجود تفاحة ما أمامه؛ فإن هناك وجوه ممكنة لفعله؛ مثل أن يأكلها أو لا يأكلها، وتخصص الإرادة فعلا واحدًا يقوم به، وهكذا.

والقدرة هي صفة بها الإيجاد والإعدام، فإذا كان للإنسان مثلًا القدرة على إيجاد سلوك ما أو عدم إيجاده؛ فهو قادر هنا، ويترتب على الإدراك والإرادة والقدرة؛ امتلاك الاختيار، وهو إصدار الأثر بالقدرة على مقتضى الإدراك وعلى حكم الإرادة. ومن كان مختارًا فهو حر في مقام اختياره. فالحرية هي القدرة على الاختيار بمقتضى الإدراك وحكم الإرادة.

وبشكل عام فالإنسان حر في مقام تفكيره وسلوكه الاختياري دائمًا، لكن حريته محدودة باختيارات معينة تفرضها عليه طبيعته ووجوده، فمثلًا لا يمكنه أن يختار أن يطير دون وسائل مساعدة، ولا يمكنه أن يختار أن يخلق كونًا آخرًا، وأحيانًا تضيف الظروف الاجتماعية التي يخلقها الإنسان قيودًا أخرى تحدد اختياراته؛ لكن بالرغم من ذلك يظل حرًا.

وهذه الحرية لا تتعارض مع وجود الإله، بل إن الإله هو من خلف للإنسان الإدراك والقدرة والإرادة، فهو الذي جعل الإنسان حرًا! وهو أيضًا الذي أوجد الإنسان على طبيعته التي تسمح له بالحرية لكنها تضع له قيودًا لا يستطيع تجاوزها كمخلوق له هذه الطبيعة.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وهكذا نلاحظ دائمًا كَم الخلل والمغالطات التي يعاني منها هذا الفكر المادي، ونلاحظ القصور الواضح في فهم واستنتاج الكثير من علماء المادية، وذلك نابع في الأساس من الإشكالات السابق ذكرها مجتمعة أو متفرقة، وسنرصد في المقالات القادمة عوامل أخري دفعت للنزوع لهذا الفكر.

اقرأ أيضا:

الجزء الأول من المقال 

الجزء الثاني من المقال

الجزء الثالث من المقال

مقالات ذات صلة