اللغة كمدخل لفهم العالم – الجزء الأول
عرفت الدكتور مجدي الجزيري على الورق منذ سنوات طويلة، إذ قرأت له مقالات ودراسات متفرقة في الفلسفة السياسية والنقد الأدبي واللغوي، وظل مرتبطا في ذهني بالرصانة والسلاسة في آن واحد، إلى أن أتيح لي أن أطالع وأقرأ كل ما أرسله إليَّ من كتبه وأبحاثه ومقالاته ومقولاته، بناء على طلبي، وهي كل ما أنتج أو جله، فترسخ هذا الانطباع أكثر، وزادت عليه الدقة والإنصاف.
وبين الزمنين قابلت الرجل مرة في رحاب جامعة طنطا حين كان رئيسا للجنة حكم ومناقشة أطروحة دكتوراه قدمها محمد أبو العلا، بينما كنت عضوا بها بصحبة المشرف د. ياسر قنصوة. فاكتشفت فيه جانبا آخر هو التواضع ومعرفة واجب الأستاذ حيال تلاميذه، ثم قابلته في شارع قصر العيني مرات، لا سيما عند بائع الصحف، فعرفت أننا جارين، إذ يسكن شارعا يسبق آخر أسكنه.
ولا أكتب عنه هنا مستجيبا لحق الجيرة، أو حتى اللقاءات الطيبة التي تأتي مصادفة، إنما لأن جهد الرجل في عرض جوانب من الفلسفة وتحليلها، ونقد مشروعات فلاسفة عرب وغربيين، والانفعال الخلاق مع قضايا فكرية واجتماعية وسياسية، يستحق الالتفات والاعتبار والاحتفاء، وهو في كل هذا لم يكن يضرب بلا نهج ولا هدي إنما وفق نسق متماسك، جعله يرى الأمور بعمق، ويفككها بوعي، ويعيد تركيبها بفهم، ويستنتج خلاصاتها بهمة وإخلاص.
العقل النقدي للجزيري
فالجزيري يمتلك عقلا نقديا رائقا، يجعله مجبولا على رفض التلفيق والتناقض، وقادرا على التقاطه، وتعيينه، وتبيان مثالبه، مثلما فعل في تعقبه تقريبا، لمشروع حسن حنفي، باعتباره أكثر المشروعات الفلسفية المصرية غزارة وطموحا وإثارة للجدل ورغبة في اختراق الكثير من المسكوت عنه، ودفع الفلسفة لتشاكس الواقع أملا في تغييره.
وهذا العقل النقدي جعل الجزيري يعمل في سبيل مواجهة الجوانب السلبية للوعي الأسطوري، باعتباره أخطر ما يواجه أي أمة، لأنه يرميها في مستنقع التخلف والركود الثقافي والعلمي والحضاري والاجتماعي والسياسي، ويحول بينها وبين التنوير.
وفي هذا يشخص ما يصيب الوعي العربي في اللحظة الراهنة، ويضع يده على محاولات عدة لعلاجه، مثل هاتين الرؤيتين اللتين قدمهما زكي نجيب محمود ومحمد عابد الجابري، ثم يشد في هذا الدرب على يد ثلاثة من أساتذة الفلسفة الكبار انحازوا إلى العقلانية هما فؤاد زكريا وعاطف العراقي وفتحي التريكي.
ولن أطرح هنا كل شيء عما اهتم به الرجل شرحا وتفصيلا، ونقدا وتحليلا، وتأملا وتدبرا، واشتباكا مع الواقع بدءا من قضية التعليم واستقلال الجامعات وانتهاء بمسارات ومآلات ثورة يناير، وكذلك شرحا لفلسفات وأفكار غربية مثل دراسة الفن والمعرفة الجميلة عند كاسيرر، وعرض فلسفة التاريخ والحضارة عن عالم الأنثروبولوجيا كلود ليفي شتراوس،
ورؤية التاريخ والحرية والتقدم عند الفيلسوف الديني والسياسي الروسي نيقولاي بيرديائف، فطرح كل هذا سيجعل المقام يطول بهذه المقالة، والأرجاء تتسع، بما يحرمنا من التركيز على نقطة جوهرية أو مركزية، لعلها تكون أكثر إفادة في فهم طريقة تفكير الجزيري وما أنتجه.
الملمح الأساسي من مطالعة المنتج المعرفي للجزيري
ولذا سأركز على الملمح الأساسي الذي وجدته من مطالعة المنتج المعرفي للجزيري، ألا وهو النظر إلى اللغة باعتبارها ليست مجرد أداة تعبير، أو وسيلة تواصل، إنما هي مدخل فهم، واقتراب رؤية، ومنهج دراسة، وأداة تحليل، وهي مسألة صارت من المساقات التي تهتم بها الدراسات العلمية الحديثة في مختلف العلوم الإنسانية، بل في بعض جوانب العلوم الطبيعية.
وهذه الرؤية النقدية التي يتسم بها تصور الجزيري امتدت إلى شرح وتحليل الدور الذي تمارسه اللغة في فهم الواقع، ومن ثم الارتقاء به، أو تطويره، وهو في هذا يبدو متأثرا بفلسفة كاسيرر، التي تقوم على أن اللغة هي مفتاح قوي لفهم كل شيء، الموضوعي والذاتي، وهي القاسم المشترك بين فعاليات طبيعية وبشرية وحضارية عدة، وكذلك رؤية فتجنشتين في هذا الخصوص.
وقد أفرد مجدي الجزيري كتابين لشرح هذه المسألة عند هذين الفيلسوفين، رابطا ما أنتجاه بالسياق القائم وقتها، والذي كان يتطور فيه النظر إلى اللغة، من حيث مفرداتها وصوتياتها وتركيبها ووظائفها والدور الكبير الذي تلعبه في حياة البشر.
ويؤسس مجدي الجزيري على هذا، ويرى أن هناك عدة اتجاهات في فهم اللغة وتوظيفها، الأول يتعامل معها كعلم في حد ذاتها، والثاني يعتبرها أداة أدبية في مختلف تشكلاتها البليغة، بما دفع البعض إلى القول إن الأدب هو تشكيل جمالي للغة، والثالث يعتبرها وسيلة للتواصل حتى في العلوم الطبيعية والرياضية، ثم يقول:
“إذا كانت الفلسفة باعتبارها نظرة عقلية فاحصة للعديد من قضايا وموضوعات اهتمامنا فإنها لا يمكن بطبيعة الحال أن تتجاهل موضوع اللغة،
وإذا كانت الفلسفة قد اتجهت إلى العلم فقدمت فلسفة العلم، واتجهت إلى التاريخ وقدمت فلسفة التاريخ، واتجهت إلى الفن وقدمت فلسفة الفن، فإن اتجاهها إلى اللغة، لا يمكن أن يكون اهتماما هامشيا عرضيا، بل هو اهتمام أصيل جوهري، وليس هناك ظاهرة أكثر ارتباطا بوجودنا الإنساني من ظاهرة اللغة، فنحن جميعا نتكلم قبل أن نصبح علماء وفلاسفة”.
ثم يعود ليحلل الصراع بين النزعتين الإسمية والإنسانية أو الاجتماعية في حقل اللغة، إذ ترى الأولى أن اللغة مجرد صورة للعالم، لأنها تعطي المقابل للكلمات والأشياء والموضوعات، وبذا فلا مجال للبعد الإنساني والتفاعل الاجتماعي في تحديد المعنى.
أما الثانية فترى أن الكلمات ليست هي التي تحدد معنى الأشياء، وإنما البشر أنفسهم هم الذين يفعلون هذا عبر الكلمات، ومن هنا فإن العبارة لا تمثل العالم إنما البشر حين ينطقون العبارات، ومن هنا فالناس هم الذين يصنعون اللغة، ولا تصنعهم اللغة.
(نكمل الأسبوع المقبل إن شاء الله تعالى)
اقرأ أيضاً:
تناقص اللغة تناقص في الإنسانية
اللغة وسيلة للتعبير عن الحقائق أم إخفائها
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
*****************
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا