اللغة وفلسفتها .. الجزء الأول
منذ بدايتها في العصر اليوناني الأيوني القديم وحتى بواكير العصر الحديث، ظلت مناقشات الفلسفة واهتماماتها الأساسية مُركزةً في إطار البُعد الأنطولوجي، أعني في إطار البحث التفسيري لماهية العالم وصيرورته وأنماط موجوداته، بعيدًا عن تلك الأفكار الأسطورية التي حفلت بها العصور البائدة.
كان كهف أفلاطون المظلم مقياسًا لوجود عالم حقيقي يعلو بأنطولوجيته الثابتة فوق متغيرات الزمان والمكان، ويتجاوز بماهيته المجردة تلك الظلال المتتابعة على جدران كهف الحس الإنساني.
كذلك كانت صورة أرسطو المميزة كعلة من علل الشيء الأربعة (المادة والصورة والحركة والغاية) مثالًا لتحقق الموجود الكامن بالقوة في المادة الغُفْل. وطوال أربعة عشر قرنًا تالية أو أكثر ظلت الفلسفة أسيرة السؤال التقليدي الأول لها، لا عن المعرفة، بل عما هو موضوع لتلك المعرفة.
تحولات في الفكر الفلسفي
التحول الأول: البحث في طبيعة المعرفة
فقط مع ديكارت “Descartes” (1596 – 1650) تجلت علامة التحول الأولى في الفلسفة نحو البحث في طبيعة المعرفة ذاتها، فبعد أن كنا نسأل عما هو الموجود، وما هي حقيقته ومقومات وجوده، تقدم ديكارت بتساؤلاته الإبستمولوجية الفاصلة: “كيف نعرف؟ وما هي مبررات معرفتنا؟ وكيف يمكن لهذه المعرفة أن تصدق بالمثل لكل عقل يمتلك أدوات تحصيلها؟”.
لم تعد المسألة تختص بإيجاد الدلائل التي تشهد في الخفاء على المقاصد الأولى للطبيعة، بل أصبح المطلوب هو النفاذ إلى الطبيعة ذاتها، وإدراك ظواهرها، والربط بين هذه الظواهر بواسطة القوانين، وعلى قدر ما يستطيع العقل البشري بلوغه.
لقد كانت تلك هي نقطة البداية لدروب طويلة، قادت الفكر الفلسفي إلى نزعات متباينة الرؤى؛ المثالية “Idealism”، والتجريبية “Empiricism”، والوضعية “Positivism”، والفينومينولوجيا “Phenomenology”، إضافة إلى النزعة البرجماتية “Pragmatism”، وهي الفلسفات التي استغرقت الفكر الفلسفي في القرون الثلاثة التالية.
التحول الثاني: التحول اللغوي وإعادة التعريف الغامض للفلسفة
في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين حدث التحول الثاني الفاصل في مسيرة الفلسفة، وذلك حين بيّن فريجه “G. Frege” (1848 – 1925) أولًا، وفتجنشتين “L. Wittgenstein” (1889 – 1958) من بعده، أن حل كثرة من مشكلات الفلسفة يعتمد بالضرورة على معنى الكلمات وطرق استخدامها،
ومنذ ذلك التحول اللغوي أصبح من الممكن إعادة التعريف الغامض للفلسفة، والقائل بأنها: “تأمل عقلي، ومنهجي، ونسقي، لتلك المحاور التي هي أكثر أهمية للإنسان”، لنضيف إليه أن هذا التأمل مركزٌ بالدرجة الأولى على اللغة التي يستخدمها الإنسان لكي يتواصل ويُعبر عن ذاته ويُوجهها في تلك المحاور المتنوعة.
لم لا؟ أليست فكرة وجود العالم ذاته –مصدر مشكلاتنا الفلسفية– لا معنى لها إلا في إطار نسقٍ من التصورات؟ وأن هذه التصورات تُصاغ في لغة بالضرورة؟ أليست خبراتنا عن العالم تُفصّلها اللغة وتوضحها؟ بل أليس العالم الذي نوجد فيه هو عالمٌ كّونته مناهجنا في وصفه؟
ما علاقة الفلسفة باللغة؟
هكذا أصبحت اللغة منطلقًا للفكر الفلسفي المعاصر، وكأننا اكتشفنا لأول مرة لغتنا التي اخترعها الإنسان ليقيم صلاته مع غيره من الأفراد. وكأن الشفافية التي كنا نظنها سمة من سماتها قد انتهت فجأة، لتبدو عملية التواصل التي تتم من خلالها بحاجة ماسّة إلى المراجعة!
لو استعرنا تعبيرًا ديكارتيًا لقلنا إن من لا يملك معرفة دقيقة باللغة ومشكلاتها، فمثله كمثل الأعمى، يُريد أن يشاجر بصيرًا دون أن يكون مغبونـًا، فيصل به إلى قاع كهف شديد الظلمة فيستويان في غموض الرؤية وعوائقها.
ربما اعترض أحدهم بأن هذا الغموض مبعثه في الواقع كلمات اللغة العادية، بما تنطوي عليه معانيها من قصور ومشابهات، أما في العلم –بلغاته الخاصة المتعددة– فالأمر يختلف تمامًا، فالمصطلحات العلمية لا تصاغ عرضًا واتفاقًا، وإنما تتبع مبدأً محددًا من التصنيف، وما يجري في اللغة العادية لا شعوريًا يجري في العملية العلمية عمدًا وعلى منهج مرسوم!
لكن هذا الاعتراض مردود عليه بحقيقة أن اللغة العادية هي الرحم الذي خرجت منه لغات العلم، ومن ثم فإن هذه الأخيرة ترث بالضرورة بعضًا من سمات الأولى، بل وترقى به درجات متصاعدة تعجز بمقتضاها عن ملاحقة الخبرات التجريبية المكتسبة دومًا، وتعوق بالتالي رؤى العلم المعرفية المتجددة.
اقرأ أيضاً:
اللغة وسيلة للتعبير عن الحقائق أم إخفائها
ما معنى اللغة في الفلسفة؟
من هذا المنطلق، نهدف في هذا المقال إلى تحديد وتبيان ماهية اللغة، والمباحث الرئيسة لفلسفتها، تلك التي تجري في رحابها عمليات الفحص والتحليل والتركيب اللغوي لدى فلاسفة اللغة المعاصرين، أيًا كانت طبيعة اللغة الخاضعة للتحليل.
اللغة في أبسط معانيها هي نسق من العلامات “Signs” المستخدمة في بناء نماذج منظمة من التركيبات وفقًا لقواعد معينة، يتواضع عليها أصحاب تلك اللغة بهدف التواصل.
وبنظرة سريعة إلى هذا التعريف نجد أنه ينطوي على مفهومين إشكاليين؛ أولهما العلامة، والثاني هو المواضعة أو الاتفاق “Convention”، فالعلامة هي ذلك الشيء الذي نتخذه مشيرًا يدل على وجود شيء سواه،
إما لأن الشيئين قد وجدناهما دائمًا مرتبطين، أو لأن الناس قد اتفقوا على أن يكون أحد الشيئين دالًا على الآخر. لكن ذلك يعني تعدد العلامات واختلاف أنواعها، ومن ثم فهي ليست وصفًا كافيًا لعناصر اللغة كأصوات منطوقة.
مفهوم العلامة عند تشارلز بيرس
لذا يميز تشارلز بيرس “Charles Peirce” (1839 – 1914) بين ثلاثة أنواع أو أنماط للعلامة، أولها العلامة الأيقونية “Iconic”، حيث تشبه العلامة المرجع الذي تشير إليه مثل صورة القطار، وثانيها العلامة الإشارية “Indexical”، التي ترتبط سببيًا بمرجعها مثل الدخان الذي يشير إلى الحريق، وثالثها العلامة الرمزية “Symbolic”، وهي التي ترتبط عشوائيًا أو عفويًا “Arbitrary” بمرجعها، ومنها كلمات اللغة.
هذا التمييز يؤدي بنا إلى المفهوم الإشكالي الثاني في تعريف اللغة، وهو المواضعة، فمن الشائع القول أن الرموز –بالمعنى الذي خلعه عليها بيرس– تتميز عن غيرها من العلامات بأن مغزاها اصطلاحي،
بمعنى أنها تنشأ وتكتسب معانيها وفقًا لقرارات عُرفية لمستخدميها. أو على حد تعبير الفيلسوف الأمريكي جون هوسبرز “J. Hospers” (1918 – 2011) في كتابه مدخل إلى التحليل الفلسفي “An Introduction to Philosophical Analysis” (1953):
“وهكذا، فبعد أن يقرر شخص أو مجموعة من الأشخاص استخدام هذا ليدل على ذاك، يُقرر أناسٌ آخرون فعل الشيء ذاته، ومن ثم تتسع الممارسة، وهذا يعني أن تلك الرموز يتم تبنيها بالاتفاق المشترك”.
كيف نشأت فلسفة اللغة؟
على أن ذلك لا يعني بالضرورة القول بنشأة تواضعية للغة، لأنه يفترض مسبقًا وجود لغة مستخدمة من قبل القائمين بالتواضع على الكلمات ومعانيها، وهو ما لا نجده إلا في مرحلة متأخرة، وبصفة خاصة في الحقل العلمي، حيث تُعقد المؤتمرات الدورية لتثبيت اصطلاحات فنية معينة أو تطوير معانيها ومدلولاتها بما يتواءم والكشوف العلمية الجديدة.
وعلى أية حال، لم يعد البحث في أصل اللغة يمثل محورًا أساسيًا من محاور البحث الفلسفي، لا سيما بعد أن أعلن بعض علماء اللغة والأنثروبولوجيا أن أبسط إجابة عن السؤال الخاص بكيفية نشأة اللغة هي أننا لا نعرف كيف نشأت اللغة،
وليس من المرجّح أننا سنعرف ذلك في يوم من الأيام! وكنتيجة لذلك تركز البحث في محور آخر أكثر أهمية، ألا وهو طبيعة اللغة وخصائصها ومكوناتها.
ومــن هذا المحـور انطلقت نظريــة العلامــات أوالسيميوطيقا “Semiotics” التي أصبحت فرعًا مستقلًا من فروع الفلسفة يعنى بدراسة الجوانب المختلفة للتواصل اللغوي ومشكلاته.
يتبع
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
*****************
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا