مقالاتفن وأدب - مقالات

الكيتش والحمقري.. في دفء الأكذوبة!

كثير من الناس يعيشون دفء الأكذوبة، الأكذوبة التي اخترعوها بأنفسهم أو اخترعها المجتمع فروجوا لها ابتغاء مكانة زائفة أو مال زائلٍ أو منصب غير مستحق! يدفعهم دفء الأكذوبة إلى تصديقها والمحافظة عليها، بل ومحاربة من يفكر أو يسعى إلى كشفها وفضح المتدفئين بها!

لا يترك دفء الأكذوبة مجالا إلا وتسلسل إليه، حتى في العلم، والويل لمن لوَّح بصقيع الحقيقة: من «هيباسوس» Hippasus الذي تجرأ وأعلن عن زيف الأساس المنطقي لنظرية «فيثاغورث»، فمات غرقا على أيدي الفيثاغوريين، إلى «جوردانو برونو» Giordano Bruno الذي أغضب رجال الكنيسة بتأكيده لنظرية «نيكولاس كوبرنيكوس» Nicolaus Copernicus القائلة إن الأرض ليست هي مركز الكون، فأحرق حيا في ميدان الزهور بوسط روما، إلى غيرهم ممن كابدوا مرارة إيثار الصدق وغباء العامة وسيطرة طالبي الدفء الزائف.

إذا كان هذا هو حال العلم، فما بالك بما سواه؟

كلمة “الكيتش”

تُقاس درجة تخلف المجتمعات والدول عادة بدرجة دفء الأكاذيب فيها، وهي أعلى ما تكون في مجتمعاتنا العربية، حيث تنعم حكوماتها بدفء أكذوبة الديموقراطية والحرية، وينعم مسؤولوها بدفء أكذوبة الخطط والإنجازات ومبادرات الإصلاح، وينعم طلابها بدفء أكذوبة التعليم، وينعم مرضاها بدفء أكذوبة الرعاية الصحية، وينعم المتخاصمون فيها بدفء أكذوبة العدالة، وينعم أكاديميوها بدفء أكذوبة الألقاب الجامعية، ويكابد مواطنوها عموما صقيع حقيقة الحياة! تتضخم الأكاذيب يوما بعد يوم، وتزداد حرارتها، لكنها تنذر بحريقٍ حضاري لا يبقي ولا يذر!

ربما كانت كلمة «كيتش» kitsch من أبلغ الكلمات تعبيرا في هذا الصدد، وهي كلمة ألمانية تعني «النفاية»، انتشرت في القرن التاسع عشر كتعبير عن موجة فنية أنتجت وقتها فنونا رديئة اعتمدت على التقليد والمبالغة، وصارت وصفا معتمدا للأدب والفن الهابط. انتقلت الكلمة من بلد إلى بلد،

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ثم اشتهرت مع قراءات خاصة للكلمة من قبل بعض الكتاب، خاصة تلك القراءة التي قدمها الأديب الفرنسي – التشيكي «ميلان كونديرا» Milan Kundera (من مواليد 1929) في روايته «كائن لا تحتمل خفته» The Unbearable Lightness of Being (1984)، حيث ركز على وجه آخر لهذه الكلمة، فالكيتش لديه ليس فقط الفن الرخيص كما يظن البعض، بل هو سلوك وموقف وصفة لفئة من البشر ترى نفسها في الكذب المجمل.

لذا لا أجد كلمة أبلغ من هذه الكلمة لوصف واقعنا العربي الحالي: خطاب إعلامي يزيف الوعي، منتجات رديئة الصنع، فن مبتذل، سلوكيات منحطة، تعليم هش، بلطجة.. إلخ. زمن «الكيتش» ومجتمع «الكيتش» وتجليات «الكيتش»!

كلمة “الحمقري”

من الكلمات المُعبرة والساخرة لوصف هذا الوضع أيضا كلمة «الحمقري»، وهي كلمة نحتها كاتبنا الراحل الساخر «محمود السعدني» رحمه الله، وشرح مدلولها بقوله: «زمان كان مدرس الحساب يعتقد أنني حمار، وكنت أعتقد أنني عبقري. وبعد فترة طويلة من الزمان اكتشفت أن المدرس كان على خطأ، واكتشفت أيضا أن العبد لله لم يكن على صواب؛ لا أنا عبقري ولا أنا حمار، بصراحة أنا مزيج من الاثنين: العبقري والحمار.. أنا حمقري»!

هذا الكائن الهجين (الحمقري) كان موجودا وما زال، لكنه خلَّف كائنا أكثر تطورا يموج به مجتمعنا هذه الأيام في كافة مواقعه، كائنا بلغ أعلى مراحل الاستحمار (لذاته ولغيره)، وإن ظل محتفظا بالاسم ذاته: «الحمقري»، وأعني به ذلك الكائن الذي يحمل جسد إنسان ورأس حمار، يظن نفسه عبقريا وهو في الحقيقة حمار!

يحدثك وكأن كلماته نابعة من جوهر الحقائق، أو كأنها نوع من الإلهام، لا، بل هي جزء من باطن الحكمة، إن لم تكن الحكمة ذاتها (بألف لام التعريف)، فإذا نفضت عنك غبار جهله، سمعت صوت حمار، ورأيت وجه حمار!

«الحمقري» في مجتمعنا العربي ليس مجرد ظاهرة، لكنه التطور الطبيعي لوطنٍ مقدس في النصوص، مكدس باللصوص، يخلع القدسية على الزائف وينعم بدفء الأكذوبة! ويتمادى المقدس البشري وحراسه في بناء أسوار المحظور، الممنوع من التفكير (التابو)، وفي تعميق مغزى وحجج تقديسهم، تعلو أصواتهم ويحصنون أنفسهم ضد أداة فضح القدسية الكاذبة: العقل، لأن مجرد السماح لهذا العضو (العقل) بالعمل من شأنه أن يعلن بقوة عن تدنيس هذه القدسية الكاذبة في باحة حرمها!

إنه النفاق واللا ثقة في العقل والركون إلى الدعة والاستسلام من قبل الكثرة، والتجهيل ورهاب العقل والرغبة في التأله من قبل القلة!

أيا عبيد التابو الزائف: حطموا أصنامكم وكُفوا عن مناجاة البطل، أطلقوا العنان للعقل، فهو وحده البطل، هو أقوى أطواق النجاة!

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

اقرأ أيضاً:

رَفَه الجهل ومعاناة الحكمة

العبودية الحديثة

إن أردت كذبًا، فالساحة مملوءة يا صديقي

أ. د. صلاح عثمان

أستاذ المنطق وفلسفة العلم – رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة المنوفية