الكرة ونشل الوعي
كثيرًا ما يطرح العقلاء في وسائل الإعلام أو على منصات التواصل الاجتماعي طروحا تضع الاهتمام برياضة كرة القدم في بلدان أمتنا العربية في حجمها الطبيعي، وتقدم طرحا منطقيا مفحما يفند منطق أولئك الذين يبالغون في حجم أية بطولة، ويقدمون تحليلات عميقة عن الخطط والاستراتيجيات في كل مبارة من مبارياتها، وهم يعتقدون بذلك أنهم ينشرون نوعا من الوعي الذي يحمل أهمية بالغة لكل عربي ألا وهو “الوعي الكروي”
وهم في الحقيقة ينشلون وعي هذا العربي المسكين؛ ذلك لأن أقصى ما يمكن تحقيقه في هذه اللعبة لا يعدو أن يكون بطولات وهمية وانتصارات لا وزن لها في تقدم الأمم أو تخلفها، ولو فازت أمة متخلفة ببطولات العالم في كل الألعاب لن يزيد ذلك من قدرها بين الأمم شيئا، ولن يغير من واقعها التعيس قيد أنملة.
والدليل على ذلك أننا لم نسمع من قبل أن أمة من الأمم صنعت البطولات الرياضية مكانتها بين غيرها من أمم الدنيا! أو أسهمت الانتصارات العنترية لأقدام أو رؤوس أبنائها في تقدمها شيئا مذكورا، بينما نرى أن من يصنع التقدم لأية أمة هي العقول التي تبدع، والسواعد التي تكابد في تنفيذ ما انتهت إليه هذه العقول.
ولا يختلف عاقلان أن لعب مليون مباراة في كرة القدم أو غيرها لن يضيف إلى الحياة ما تضيفه لحظات يغرس فيها شخص شجرة تأكل الناس والأنعام منها، أو يصنع فيها شيئا مفيدا لنفسه أو لغيره في هذا الوجود.
ضربا من الجنون
قد يقال إن الرياضة هي التي تبني الأجسام التي تزرع وتصنع! ونقول ليست ثمة إشكالية في ممارسة الرياضة في ذاتها؛ بل إن ممارستها ضرورة لا يماري فيها عاقل، شريطة أن تكون الرياضة وسيلة للإسهام في تقوية الأجسام على البناء، أما أن تكون غاية في ذاتها على نحو يجعلنا نُعليها على ما تقوم به حياة الأفراد وتنهض به الأمم، فهذا ما لن يمنحنا في النهاية إلا قبض الريح.
وإذا كان الإحساس بنشوة الانتصار في البطولات الرياضية قد يبدو مبررا –إلى حد ما- عند الأمم التي حققت السبق والتفوق في كل ما هو جاد في هذه الحياة، وتسعى لأن تحقق السبق أيضا في كل ما هو لعب، لكن كيف لأمة -مثل أمتنا- تضرب جل بلدانها كثير من مظاهر الفقر والتخلف، بل وتعاني من استعمار ثقافي واقتصادي بل وعسكري في بعض مناطقها!
أنَّى لها أن تنتشي طربا لانتصار موهوم في مباراة ما، ولديها هموم وأحزان وانكسارات لو قسمت على أمم الأرض لوسعتها.
إن الإحساس بفرحة الانتصار لا يحق إلا لأمة لا ينغص عليها حياتها عند هذه الفرحة أي انكسار! فما بالنا إذا كانت جل بلدان هذه الأمة صاحبة ذلك النصر الموهوم غارقة في الانكسارات والهزائم والهموم.
وهذه –لعمرك- وضعية عجيبة! إنها انفصام عن الواقع وذوبان في الوهم والخيال، ولا يمكن لكائن عاقل أن يشخص هذه الوضعية إلا أنها تكاد تكون ضربا من الجنون! ولم لا؟! وعلى ماذا ينطبق الجنون إذا لم ينطبق على هذه الوضعية؟!
أفيقوا أيها العرب!
قد يبرر شخص ما هذه الوضعية بأن ثمة فائدة مادية ما تحققها الأندية الرياضية لبلدانها من هذه الانتصارات، على نحو يبرر لأبناء تلك البلدان ما يمنحوه لها من اهتمام، وهنا يمكن الرد عليه بالقول: أليس من العقل أن تقدر هذه الفائدة بقدرها، وأن توضع في مكانها الصحيح الذي تستحقه بين الفوائد التي يمكن أن يحققها لنا اهتمامنا بكل ما هو جاد في الحياة؟
إن شراء شخص معين لسلعة ما بألف جنية من متجر، بسعر يزيد جنيها عن متجر مجاور له تماما يبيع نفس السلعة بنفس النوعية والمواصفات دون وجود أي مبرر هو –دون مراء- ضرب من اللاعقلانية، أو لنقل أنه ضرب من الجنون!
فكيف نحكم على من يضحي بما يحقق له الملايين مقابل ما يحقق له الملاليم.
هل يمكن أن تحقق البطولات الرياضة عائدا ماديا لأمة مثل ما يحققه لها التقدم العلمي والتكنولوجي؟! هل يمكن أن يمنح الفوز بهذه البطولات لأمة مكانة بين الأمم مثلما تمنحها قوتها الاقتصادية والعسكرية؟… هل… وهل… وهل؟
هل أغنى الأرجنتين تفوقها في كرة القدم عن انهيار اقتصادها وعجزها عن سداد الديون التي فاقت ناتجها القومي عدة مرات منذ سنوات قليلة خلت؟ هل يكمن سر تفوق وهيمنة الولايات المتحدة على العالم في قوة أنديتها الرياضية لا سيما فريق كرة السلة الذي يسمى فريق الأحلام؟!
آلاف الأمثلة التي تقول لنا أفيقوا أيها العرب! وكفي يا من تتاجرون بعقول الأمة وتبيعونها بثمن بخس دراهم معدودة مقابل شهرة لكم أو لوسيلتكم الإعلامية عبر (نشل الوعي) بحقيقة الوضعية المفجعة التي تعيشها أمتنا.
إن أمتكم -يا من تنشلون الوعي- قد تغرق قريبا إن لم نستيقظ من هذا الوهم وغيره من الأوهام المدمرة! ولن يحول دونها ودون ذلك الغرق شيء، حتى ولو تعلقت بكل (الكور) التي أنتجتها كل مصانع العالم ومنذ متى كانت (الكور) سفنا؟
اقرأ أيضاً:
التعصب الكروي في السينما المصرية
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
*****************
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا