المحرك الرئيس لهذه الحرب هو التصارع الأزلي بين البشر إزاء جدلية التماثل والاختلاف، التي مفادها: أن البشر متفقون –إجمالا– إزاء مجموعة من المضامين الكلية والقيم العامة والمعاني المجردة من خير وحق وجمال،
أو من عقل وعلم ودين واحترام للإنسان، وهو الاتفاق الذي يجعل التعايش بين البشر سهلا ممكنا، إلا أنهم بعد ذلك مختلفون في طريقة تنظيم هذه المضامين وتلك القيم والمعاني.
عملية تنظيم القيم والمعاني
فكل مجموعة بشرية تنظم قيمها ومعانيها ومضامينها بطريقتها الخاصة، وتتعامل معها وفق أساليب محددة، وهذا الاختلاف في تنظيم تلك المضامين والقيم والمعاني العامة يدفع بدوره بعضَ هؤلاء المختلفينَ إلى فرض طريقتهم المتبناة من قبلهم في تنظيم هذه المضامين والقيم والمعاني، على الآخرين.
بيد أن هذا السعي إلى فرض الطريقة الخاصة بجماعة معينة في مقاربة مضمون كلي أو قيمة عامة أو معنى مجرد، لا يأخذ شكلا مُجاهِرا، لأنه لو وقع بشكل مجاهر مكشوف فإنه سيُواجَه من قبل المجموع بـالرفض، ذلك أن ما تسعى هذه المجموعةُ إلى فرضه هو خاص بها أكثر مما ينتمي للمجموع.
وخروجا من هذا الرفض المتوقع، يسعى الحريصون على فرض طريقتهم في مقاربة القيمة المجردة والمعنى العام والمضمون الكلي، إلى إيقاع هذا الفرض بشكل مضمر ضمني حتى يمكن تمريره وتسويغه للمجموع.
عوامل تزيد الحرب الرمزية اشتعالا
وبيان ذلك، أن هذا الساعي إلى فرض طريقته في تنظيم القيم العامة والمعاني المجردة يحاول أن يستغل نقاط الاتفاق التي تُشكل واجهة عامة يتفق عليها الجميع، ويعتبرها غطاءً تحته يقوم بتسريب نقاط الاختلاف،
التي تُشكّل واجهة خاصة به من أفكار ورؤى ومواقف داخل العام الذي يتفق الكل على قيمته، سواء أكان هذا العام خطابا دينيا، أم خطابا إنسانيا أم علميا.
وهنا بالتحديد تأخذ الحرب الرمزية في الاشتعال وتتشكل ساحتها حيث تُنتقى الموضوعات العامة التي تتسم بواجهة قيمية مثمّنة من قبل الجميع سواء أكانت موضوعات دينية حيث قيم الحق والخير والجمال،
أم موضوعات إنسانية، أم موضوعات علمية حيث قيم العلم والعقل، لتكون تلك الموضوعات العامة بواجهتها القيمية المثمنة غطاءً كثيفا لألاعيب المتصارعين في تلك الحرب.
تلك الألاعيب التي حتما ستقع على مستوى تفاصيل الخطابات وإجراءاته الدقيقة، وهو ما يسم تلك الحرب الرمزية بالخفاء، إذ إنها تُخفي حقيقتها بحجبها لإجراءاتها، في الوقت الذي يكون وطيسها قد حَمِيَ وبأسها قد اشتد.
خطورة الحرب الرمزية الخفية
إن خطورة هذا السعي لفرض الخاص تحت غطاء العام، متعددة الأوجه:
أولًا: التنفيس عن رغبات ومخاوف النفس
أنه سعي يُهدِّد بتحويل هذه الموضوعات ذات الطبيعة القيمية العامة سواء أكانت موضوعات دينية أم إنسانية أم علمية، من موضوعات عامة تنهض على قيم مجردة يتفق عليها الجميع، إلى “وسيلة الذات” للتنفيس عن رغباتها ومخاوفها ونزواتها.
فتغدو الموضوعات والنصوص ذريعة لأمور تتنافى مع روحها، مثال التحريض والسب والتهييج وتأييد الأحكام الجاهزة المسبقة، وكلها سلوكيات تتنافى مع روح الدين والعلم وقيم الإنسانية،
بيد أنها سلوكيات لا تأخذ طابعا مجاهرا داخل الخطاب، إنها سلوكيات ترفض أن تتجسد في الخطاب سافرة، ولكنها في الوقت ذاته ترفض أن تتوارى، وسنعرف تفصيليا سبب هذه المفارقة لاحقا.
ثانيًا: خداع أصحاب النظرة السطحية
أنه سعي لا يمكن للعين البسيطة الساذجة أن ترى إجراءاته حيث تسريب الخاص تحت غطاء العام، لأن هذه العين الساذجة حينما تُعرض عليها الخطابات التي تدور حول تلك الموضوعات والقيم الدينية والإنسانية والعلمية، من قبل هذا الذي اتّخذها وسيلة لأهوائه وسبيلا للتنفيس عن ذاته، غالبا ما تبصرها بـالذاكرة لا بـالعين البصيرة الناظرة.
والذاكرة لا تكترث بالتفاصيل المتحققة في الخطابات المعروضة بقدر ما تحتفي بالعام المشترك، الأمر الذي يُفوّت على صاحب هذه النظرة الساذجة الواقعة بالذاكرة، الوعي بألاعيب هذه الخطابات المتصارعة،
تلك الألاعيب التي تقع بالتحديد على مستوى تفاصيل الخطاب التي لا تحفل بها هذه العين الساذجة، لا على مستوى واجهة الخطاب العامة التي اعتادت تلك العين الناظرة بالذاكرة الاهتمام بها والاكتفاء بوجودها.
ثالثًا: إضعاف مردودية العام
أن هذا السعي إلى فرض الخاص تحت غطاء العام سيضعف مردودية العام وينال من طاقته، إذ إن العام من قيم ومعان معترف بها بعد ما كان “وسيلة للتواصل”، سيصبح –في ظل هذه الحرب وذلك السعي– “وسيلة للتمايز”،
بعد ما صار مطية للخاص غير المجمع عليه من قبل المجموع، وفي هذا نسف لمردودية هذه القيم والمعاني “العامة” في نفوس الناس، إذ إنها غدت سبب فرقة ونزاع، وفي ذلك نيل من قوة هذه القيم والمعاني الطاهرة.
وحتى نكشف الغطاء عن هذه الحرب ونُصيّر مضمرها ظاهرا، لا بد أن نضع الخطاب بوصفه ساحة هذه الحرب الرمزية، تحت معاول التحليل ومباضع التشريح، لنعرف كيف يغدو الخير حيث القيم الدينية والعلمية والإنسانية،
سبيلا للشر حيث الفتك بالخصوم والسعي إلى فرض النماذج والرؤى الخاصة على الناس عامة، تحت غطاء القيم المجردة والمعاني العامة والمضامين الكلية المثمنة والمقدرة، وهذا هو المزمع عرضه قادما.
اقرأ أيضاً:
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
*****************
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا