جرح غائر تعاورت عليه مباضع الجراحين من مهرة ومُلفّقِين، وضربات المُغْرِضين من إخوة وكائدين، ووجع هذا الجرح لا يُعرف إلا بإدراك امتداد غوره، إذ إن غوره عميق ليس فقط على المستوى الجغرافي ذي الطابع الحسي الذي ينحصر في بقعة من الأرض ومن يعيش عليها من إخوة فلسطينيين، يصيبها –أعني الأرض– ويصيبهم –أعني الفلسطينيين– من الهوان والضياع ما يصيبهم كل يوم بتجدد الأيام ومرّ الليالي، لا، ليس فقط هذا، لكن عمق هذا الغور يمتد أيضًا ليطال المستوى المعنوي ذا الطابع النفسي الذي يضرب في نفس كل مسلم عمومًا، تتلظى نفسه ألمًا على ضياع مقدساته التي وطأتها أقدام خيار البرية من ذرية آدم من رسل وأنبياء، فحافظ عليها أجدادنا الأولون باللحم والدم، وتحترق نفس كل عربي خصوصًا كمدًا، يرى بعد تدنيس المقدسات ضياع أرضه التي جمعها الأولون بمُهَجِ النفوس وذَوْبِ القلوب، أرض حملت أجدادهم على ظهرها يأكلون من خيرها أحياء، ووارتهم في بطنها أمواتًا، فما أرحمها بأهلها أحياء وأمواتًا، أرض يعانق غبارها أبشارنا جيلًا بعد جيل، كأنها أرواح آبائنا تستحلفنا حافظوا علينا ترابًا كما حافظنا عليكم صغارًا.
إن هذه المقدمة ليست لدغدغة المشاعر والعواطف بقدر ما هي إرساء للمشكلة على جانب من جوانبها وبعد من أبعادها، وهو البعد النفسي لهذه المشكلة في قلب الشعوب المسلمة عمومًا والعربية خصوصًا، إذ إن تصرفات العدو بإزاء كثير من مشكلاتنا، سواء المعلنة أو غير المعلنة منها إنما تستهدف فيما تستهدف، كسر إرادة الشعوب وثقتها بنفسها حتى تحدّ من تقدمها نحو مستقبلها ونهوضها بأعبائها، وذلك يكون بإيلام الشعوب بالقهر النفسي، هو أمر سمّاه علماء النفس: “الخصاء العقلي”، وعلينا أن نعي ذلك حتى نعرف كيف نتعامل مع المشكل ونتجاوز الأزمة ولا نحقق للعدو ما يصبو إليه، ونُصيّر هذه المشكلة من عقبة كأداء إلى حافز نحو الارتقاء، وذلك لا يكون إلا بعد إدراكنا للأبعاد الأخرى للمشكلة، إذ إن شمولية الرؤية تكفل لنا الخروج من الأزمة.
إشكالية أم مشكلة؟
أستخدم في كشف تعقد أبعاد القضية الفلسطينية عمومًا والقدس في القلب منها خصوصًا أداة منهجية تقوم على التفريق بين المشكلة والإشكالية، فالإشكالية –على ما أوضحها د. محمد عابد الجابري في كثير من كتبه– بصورة مبسطة منظومة مشكلات نشأ بينها علاقات مترابطة ومن ثم بات لا يمكن حلها منفردة إلا في إطار عام يشمل هذه المشكلات مجتمعة، بإيجاز وبصورة مجازية: إذا ما كانت الإشكالية أُمًّا فالمشكلات هم البنون والحفدة، الأمر الذي يعني أننا مع الإشكالية، لسنا فقط بإزاء مشكلات منفردة، لكننا على التدقيق بإزاء مشكلات مترابطة ومتفاعلة لا تكف بازدياد تفاعلاتها عن تكاثر مشكلاتها وقوة ترابطها، ومن هذا العرض لمفهوم الإشكالية عرفنا أن المشكلة جزء منها.
وإذا ما كان هذا التفريق نظريًا فكريًا فإن د. ناصيف نصار قد استخدم تمييزًا يشبهه بيد أنه عملي تطبيقي يتعلق بالدولة والأمة ويمس موضوعنا بصورة أكثر اقترابًا، وهو التمييز بين المرض والمشكلة في حياة الدولة والأمة، وتوسط الأزمة بينهما.
فالمشكلات لا تنفك تعرض لكل كيان ما بقي حيًا، إلا أن من المشكلات ما يتفاقم ليتحول أزمة ثم يطول عليه الأمد وتتراكم عليه المشكلة تلو الأخرى حتى يصير ما كان في مهده مشكلة قد غدا مرضًا يهدد حياة الكيان ككل، هذه هي المراحل: مشكلةٌ فأزمةٌ فمرضٌ، كما يرى د. ناصيف، أو مشكلةٌ فإشكاليةٌ كما يرى د. الجابري.
فإذا ما فهمنا الإشكالية في أصلها فعلينا أن نعرف أنها لا تُتجاوز بقرار فردي يصدره حاكم هنا أو هناك بصورة فوقية، أو بحل مشكلة من مكونات تلك الإشكالية منفردة، كما أوضح د. الجابري، بل إنها تحتاج إلى أمرين: الأول: على مستوى الفاعلين القائمين بحلها وهم في حالتنا الأفراد الذين يتعاطون هذه الإشكالية بغية حلها، إذ إن هذا الحل لا يكون ناجعًا إلا بالتكاتف المجتمعي بين أبناء المجتمع ككل من ناحية وبين المجتمع وحكامه من ناحية أخرى، إذ إن الإجراءات التي ستُتخذ لحل هذه الإشكالية سيكون لها ثمن بشكل أو بآخر لا بد من بذله، الثاني: على مستوى المفعول به وهو في حالتنا تلك الإشكالية، إذ لا بد أن تُفكك تلك الإشكالية إلى مشكلات وتُرصد العلاقات بين بعضها، وذلك لنزع الطابع الإشكالي الجدلي عن هذه المشكلات المتفاعلة، هذا الطابع الذي يشوش الفكر ويؤزم الواقع.
ثم توضع لمشكلات هذه الإشكالية استراتيجية حل مجتمعة، تأخذ في حسبانها اعتبارين: الأول: ترابط هذه المشكلات وتفاعلها، فالمشكلات الأكثر تأثيرًا ومباشرة أولى في ترتيب الحل من غير المباشرة ذات التأثير الأقل، الثاني: أولوية هذه المشكلات، تلك الأولوية التي تتعدد إذا ما اختلفت زاوية نظرنا، فإذا نظرنا لها في ضوء أهمية المشكلة موضوعيًا، قد نصير إلى قائمة مشكلات تختلف من حيث ترتيبها عن قائمة أخرى إذا ما نُظر للمشكلات ذاتها في ضوء إمكانياتنا العملية، إذ إن إمكانياتنا المادية أو ظروفنا الحضارية والتاريخية، في لحظة ما، قد لا تتيح لنا حل مشكلة معينة من مشكلات هذه الإشكالية رغم أولويتها الموضوعية، ومن ثم تتأخر في قائمة الأولويات، بسبب ضعف الإمكانيات أو عدم تمكين الظرف الذي نعيش فيه لنا، وهذا لا يعني بالطبع استبعاد حل هذه المشكلة المعينة نهائيًا بقدر ما يعني تأجيله وقتيًا.
في ختام هذه المقالة أود أن أختم بتنبيه تمليه عليّ الأمانة العلمية، ألا وهو أن الحكم بأولوية مشكلة على أخرى في الحل ضمن مشكلات الإشكالية– أمر يخرج عن طوق المحلل النظري مهما اتسعت معارفه وتعددت أبعاد رؤيته، إذ إنها مسألة سياقية عملية بحتة، يدركها السياسي الممارس لمهمته والمدرك لمقتضيات لحظته، ويبقى بعد ذلك الحكم للتاريخ والمحلل النظري إذا ما عاين نتائج القرارات وألمّ بظروف السياقات.
مقالات ذات صلة
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا