من أغرب اللوحات
تدقيقك في تفاصيل الأمور حواليك غالبًا هيعمق فهمك للحقيقة، للأسف مش دايمًا فهمك للحقيقة يتضمن “راحة”، وإنما غالبًا تدقيقك في التفاصيل مش هيقدم لكَ غير نسيج جديد من الاحتمالات.
اللُوحة اللي قُدامك دي، وزي ما أنتَ شايف كده للوهلة الأولى بتوضح عملية “سلخ” جلد إنسان حي قُدام العوام.
بس لو ركزت في تفاصيل تعبيرات وجه الرجُل ذات نفسه، تجد إن بجانب “الألم” هُناك مشاعر تانية مُختزلة بيحاول الرسام تقديمها بين التفاصيل.
لو أنتَ دلوقتي بالقرن السادس عشر أو السابع عشر في أوروبا، ودخلت أي دار عدل –محكمة يعني– وحبيت تبُص على اللُوحة الموجُودة فوق أي مكتب مِن مكاتب القُضاة هتلمح اللُوحة اللي قُدامك، لُوحة “سلخ” إنسان حي أمام العوام، لوهلة تظُن إن ده تنفيذ حُكم قاسٍ جدًا قضى بيه واحد مِن القُضاة وخلدوه بالألوان والفُرشاة، بس الحقيقة غير كده!
بيحكي “هيرودوت” قصة اللُوحة دي، واللي هيتضح إن العبرة الأخلاقية منها أشد وطأة مِن محض حُكم قضائي، وإنما أعمق.
في عصر الملك “قمبيز الثاني” حاكم “فارس” قرر تعيين “سيسامنيس” بمنصب كبير القُضاة، بعد ما بدا عليه مِن النزاهة والحق طُوال سنين خدمته.
سيسامنيس بالأصل رجُل “فيلسُوف” وضع تعريفات للحق والخير بصفتهم قيم مُطلقة، وكان دايمًا يُحب الخطابة وسط القُضاة بأنهم يعلُوا من شأن العدالة وسط المُجتمعات.
اتعرفت عنه صفات النُبل والأمانة طُوال فترة تقلُده لمنصب كبير القُضاة، وبناءً عليه كانت أحكامه مُصدقة ولا يُمكن لحد أنه يناقشه فيها أبدًا.
حتى كان ذلك اليوم اللي هيقُودنا للحادثة البشعة اللي تُجسدها اللوحة.
اتعرضت قضية على “سيسامنيس”، مفادها إن الحُكم فيها لصالح واحد من الطرفين المُتعارضين ينُص على تغريم الطرف الثاني مبلغ ضخم مِن المال، بس الحق كانت كفته ميالة لطرف مُحدد وكُل وقائع القضية يعني واضحة.
الحُكم كان صادم لمصلحة الطرف اللي الناس كُلها مُتوقعة تحمله للقضية وإن الحُكم هيكُون ضده.
استدعى “قمبيز الثاني” فورًا القاضي “سيسامنيس” عشان يفهم منه أسباب الحُكم الغريب ده إيه، وسط ادعاءات كبيرة جدًا حواليه بأن الموضوع فيه “رشوة”، وده كان صادم بالنسبة لسُمعة سيسامنيس المشهُورة.
المُهم في أثناء الكلام مع الملك ينهار “سيسامنيس” ويعترف بأنه تلقى رشوة مُقابل إصداره الحُكم ده، وبدأ يبكي وتبان عليه مشاعر الندم الصادق.
يقرر “قمبيز” عزله عن منصبه، وطلب منه أنه يختار خليفة ليه يكُون بنفس الكفاءة وعلى قدر أعلى مِن النزاهة، فيختار “سيسامنيس” ابنه “أوتانيس” عشان يتولى منصب كبير القُضاة مِن بعده.
بعد تعيين “أوتانيس” يكمل “قمبيز” حُكمه على “سيسامنيس” بإن يُسلخ جلده حي وسط العوام وعلنيًا، بالإعلان عن جريمته اللي ضد النزاهة والأمانة اللي المفرُوض مُلازمين لمنصب زي ده، عشان يكُون عبرة لأي قاضٍ من بعده.
مش بس كده.. الجلد اللي هيتسلخ ده، هيتاخد كده ويُحاك كُرسي كبير القُضاة بيه عشان يبقى تذكرة دائمة لأي قاضٍ تُسول لهُ نفسه لارتكاب نفس الجُرم، الأدهى إن “قمبيز” طلب إن “أوتانيس” نفسه يحضر مراسم السلخ الحي لأبوُه “سيسامنيس” قُدام الناس.
بالفعل، بعدها بأيام بيتسلخ جلد “سيسامنيس” حيًا أمام الكُل مباشرة وقُدام ابنه اللي قعد على كُرسي كبير القُضاة مكان أبوه.
اللوحة اترسمت بعد الحادثة بسنين، حاول فيها الرسام الهُولندي “جيرارد داڤيد” مش نقل وقائع الحادثة تاريخيًا وإنما كانت رغبته الأولى نقل مشاعر “سيسامنيس”، اللي حاسس بالخجل والـعار قُدام الناس كُلها، وفي نفس الوقت بيمُر بألم جسدي رهيب من التقطيع في لحمه.
بُص على ملامح وجه “سيسامنيس” المُشمئزة وفي نفس الوقت تُعاني ألم رهيب، ومن ناحية تانية “أوتانيس” قاعد على الكُرسي ماسك نفسه بالعافية، بس إرضاءً لوالده ولسُمعة الأسرة القضائية ونزاهتها قاعد بيتعذب في حين يرى والده بيمُر بتعذيب وحشي زي ده.
حاول الفنان تجسيد اللحظة الأهم في القصة دي كُلها، اللحظة الأكثر تأثيرًا واللي مليانة بكُل المشاعر الإنسانية اللي تُصدّر للإنسان مدى فداحة الجُرم، الأسى اللي بيتبعه، لحظات الندم اللي يتبعها خزي وعار مُمتد على وجُوه الحاضرين.
المشاعر دي قدمت القصة بأبعادها الحقيقية، لأن الجريمة الأصلية اللي ارتكبها “سيسامنيس” مكنتش إنه استلم رشوة وحكم حُكم ظالم ضد أحد المُتخاصمين، وإنما مُخالفته لقواعده وأصُوله اللي نشأ عليها، ومدى شعُوره بالتضاد اللي حصل في شخصيته مِن جراء فعل زي ده.
طيب، تعالى نتوغل أكتر جُواك أنتَ، وكام مرة خالفت ضميرك وأصلك لاكتساب منافع بسيطة قريبة، وبعدين حسيت بندم وفلت مِن العقاب اللي وقع على سيسامنيس.
مُمكن تكُون كتير ومُمكن لأ، احتمال يكُون ارتكبت الجُرم ده مرات قليلة، بس الفكرة هِنا إن اللحظات الأكثر تعاسة للإنسان لما يتعرى قُدام نفسه والعالم كُله بجُرم “أخلاقي”، ينتزع معاه صفات التحضُر والإنسانية اللي اكتسبها من سُمعة مُعينة حاول سنين طويلة يبنيها.
تضاد التعري ده بيكُون “الستر” اللي كُلنا غالبًا بننعم بيه ومش حاسين بقيمته، لأننا اعتدناه خلاص.
أنا هعمل كده وكده ومحدش هيعرف، مع إن ربنا سُبحانه وتعالى “عرف”، وأنتَ يقينًا طُول الوقت عارف ومُتأكد إن أي جُرم ومُخالفة بترتكبها مكشُوفة لله بس عايش على سترهُ ليك وسط عباده.
أول ما يترفع عنك رداء الستر بتمُر بمشاعر كُلها تضارُب، زي اللي واضحة على وجه “سيسامنيس” اللي مصيره بالأخير المُوت.
مش مُهم ثقافتك وبيئتك والمنصب اللي أنتَ فيه، إنما كل واحد فينا له رصيـد من الستر مجاني كده، تعمل الذنب وربك يسترك ميفضحكش ويسترها عليك مرة واتنين وتلاتة وعشرين.
ولأن كشف الستر ده عقاب إلهي، فإن ربك بينهى عن إن أي حد يحاول يكشف سرك ويوعده بعذاب أليم.
بسم الله الرحمن الرحيم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ۖ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)﴾، الحجرات.
وإحنا في أي فضيحة تنتشر على السوشيال ميديا بنسلخ جلد المفضُوح حي حرفيًا ونتشارك كُلنا فضيحته، ومش بنحس بالإنسان ذات نفسه زي ما حس “جيرارد داڤيد” حتى بـ”سيسامنيس” وحاول يقدم قضيته دي للعالم.
زمان الفن كان عصا سحرية للتعبير عن أدق مشاعرنا الإنسانية وأكثر لحظات الإنسان فظاعة وقسوة، على عكس دلوقتي اللي أصبح مجال ترفيهي فقط.
اللي يهمني من قصة “سيسامنيس” ولوحته كُلها هي تعابير وجهه، ركز في الصُورة وكويس، حس بانقباض نفسك، لأن اللوُحة دي لو طبقتها على مقاييس الزمن ده هتلاقينا كُلنا شبه الناس اللي واقفة ورا وكُلها عاملة فيها من الصلاح كثيرًا، وقال يعني الجُرم الأخلاقي بعيد عنها.
مقالات ذات صلة:
من عصورنا المظلمة إلى سنة عشرة آلاف!
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا