فن وأدب - مقالاتمقالات

القاص حسام صابر .. تجربة في محبة الأدب

قبل سنتين تقريبًا دعاني الأديب حسام صابر لمناقشة روايتي “صاحب السر” في “نادي المعادي للأدب”، فطلبت منه أن يمهلني قليلًا قبل الرد عليه، لأعطي نفسي فرصة لمعرفة شيء عن المنبر الذي دُعيت إليه، ففي كل مجال غلب الأدعياء الأولياء. وساعدني محرك البحث “جوجل” في التقاط بعض المعلومات، ثم وجدت للنادي صفحة على “فيسبوك”، تتابعت فيها أمام عينيّ أسماء بعض الأدباء الموهوبين والمقدرين الذين استضافهم النادي، فاطمئن قلبي إلى أن الذين دعوني أناس يحبون الأدب، ويلتقون في سبيله بين حين وآخر، ويقطعون له من أوقاتهم وأموالهم، ويفعلون هذا في جد وإخلاص ظاهرين، ودون كلل ولا ملل.

صارحت حسام، بعد الموافقة على دعوته الكريمة، بأن المعادي متاهة بالنسبة إلي، وعليه أن يشرح لي مكان اللقاء بإسهاب، فعرض على الفور أن يأتي بالقرب من بيتي ويصطحبني في سيارته إلى حيث اللقاء، وكان في غرفة أو ركن مغلق بأحد المقاهي، بديلًا لمكانه المعتاد في مكتبة “كتب خان”. وقتها كان لا يزال الاحتراز من “كورونا” على أشده، والقيود المفروضة بسببه جارية وسارية، لكن كنا قد اكتسبنا جسارة في مواجهة الوباء، فعادت الحياة تدب، والأنشطة تقام، والناس يسعون في سبيل العيش.

كانت المرة الأولى التي ألتقى فيها حسام، وفي الطريق عرفت أنه كان يعمل في وظيفة مرموقة بأحد البنوك، لكنه تقاعد مبكرًا، ثم أعطى الأدب كل وقته، بين القراءة والإشراف على نادي الأدب هذا، والكتابة، التي يعتزم أن يمنحها كثيرًا من الاهتمام في قابل الأيام، كما أخبرني.

في النادي –أحد منابر القراءة المعتبرة– قدمني حسام إلى مرتاديه، وكانوا مجموعة محبة للأدب، تتابع ما يُبدع وتقرأ منه بنهم واقتدار، شعرت بهما حين أنهيت مداخلتي وجلست لأنصت إلى مداخلاتهم وأسئلتهم، فوجدتها غاية في العمق، تبين للوهلة الأولى أن الحاضرين قد قرأوا الرواية وهضموها ولديهم ما يقولونه بشأنها، وكان بعضه مبهرًا بالنسبة إلي، جعلني أثق في أن الأدب في بلادنا سيبقى عفياً ما دام هناك من يتابعونه على هذا النحو المفعم بالشغف والجدية.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

كنت قد عرفت من بحثي عن اسم حسام أن له مجموعة قصصية على وشك الصدور بعنوان “بالطو رمادي”، فطلبت منه أن يمدني بها فور خروجها إلى النور. ومرت شهور وهاتفني قائلًا: تسلمت نسخي من كتابي الأدبي الأول، ثم تفضل بالمجيء إلي مرة أخرى، ليمنحني نسخة، مضيت في قراءتها على الفور، ووضعت على هوامشها انطباعاتي وملاحظاتي، على أمل أن أكتبها يومًا ما في مقال نقدي. لكن الوقت مر، فوجدت نفسي راغبًا في حديث ثلاثي الأبعاد، عن النص وصاحبه ونشاطه الأدبي.

فالحقيقة أن تجربة حسام في الكتابة والعناية بالأدب تستحق أن يُنظر إليها كاملة، فهو لا يكتفي بالإبداع إنما ينشغل عن طيب خاطر وإيثار بإبداع الآخرين، وهذه فضيلة –بل فريضة– في وقت يلاقي فيه الأدب كثيرًا من العنت والعناء، في إبداعه وفرص نشره ومدى توزيعه وردود الأفعال عليه، التي يتيح لها أمثال حسام فرصة عبر نادٍ منتظم، يأتي إليه قاصدوه من أحياء عدة في القاهرة، ولا يدفعهم إلى المجيء –على ما فيه من غرم– سوى الاحتفاء بنص جيد، وكاتب مجد.

رواية بالطو رمادي

2021 637674073507334468 733 - القاص حسام صابر .. تجربة في محبة الأدب

أما عن “بالطو رمادي” فهي مجموعة طبعتها دار الهالة للنشر والتوزيع، وحوت أقاصيص وقصصًا قصيرة جدًا متنوعة، تتخذ من تأملات كاتبها في الأحداث والوقائع والظواهر الاجتماعية والمواقف الإنسانية مادتها، فيلتقط كل هذا بعين فاحصة وقلب طروب وذهن حاذق، ويخرجه قطعًا سردية تزاوج بين التهاب العاطفة وبرودة التفكير الطويل، وتراوح بين صخب حاد وهدوء جلي، وبين تجهم وانبساط، وإقرار عيش متجدد وسخرية منه، وبين الاستفادة من أحداث وظواهر اجتماعية واقعية وصناعة أخرى متخيلة، وبين مباشرة في الطرح ومداراة ومواراة.

بدت القصص معبرة ليس فقط عن تنوع الحكايات والمسارات في حياتنا خلال زمن ليس بالقصير، بل أيضًا عن انشغال كاتبها بكثير مما يجري حوله، وهو ما انعكس في تعدد الأفكار، وتنوع الرؤى، التي تهادت على مدار القصص سلسة في لغتها ناضجة في معناها ومغزاها، وسخية في صورها ومتمتعة بقدر معقول من الجاذبية، وموزعة في طرحها على عوالم متعددة من الرومانسية والواقعية والفكاهة والجدية، والرمزية الحاملة لبعض الإسقاطات والمباشرة التي تذهب إلى الرؤية من أقرب طريق، والحنين إلى الماضي والانخراط في الآني والتطلع إلى الآتي، والنباهة واليقظة حيال ما يقع وما يجري ويدور، والشرود في الأحلام العصية التي يجب اصطيادها.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

في هذه القصص نقابل كثيرًا من الأحوال كما في “ضرس العقل” و”أنا أحب” و”الطفلة”، والأوقات أو الأزمنة كما في “السابعة صباحا” و”عندما تكلم الشتاء” والأمكنة كما في “أرض فضاء”، والمهن كما في “بائع الكشري” والمواقف كما في “لقاء مختلف” و”خطيب الجمعة”، والألوان كما في “اللون الأحمر” والنماذج البشرية كما في “مس تفاتيفي” و”مشوار لاعب”، والملابس كما في “بالطو رمادي”، وتحضر الحيوانات مثل الكلاب والقطط والبغال، وتتهادى الطبيعة ممثلة في النهر والبحر والخلاء وآثار الشتاء، وتتوالى السياسة وظروف المجتمع الآنية خفية بين السطور، مفتوحة على التأويل والمقاربة.

هكذا يصبح التنوع السمة الظاهرة لهذه المجموعة، وهو ينم عن أن كاتبها قد أبدعها في زمن طويل، أعطى نفسه فيه فرصة لالتقاط الحكايات والصور والمواقف والأفكار، وأمعن النظر فيها مليَّا، وكتبها على مهل، وربما أعاد كتابة كل منها غير مرة، أو راجع بعضها مرات، وهي مسألة يكشف عنها تكثيف القصص، وحذف كل ما يثقل النص، ويشبع السرد، حتى تبدو بعض القصص كأنها روايات مضغوطة، فيما تبدو أخرى نثرات وشذرات وومضات ملتقطة بعناية.

نعم تأخر حسام في إصدار أول عمل أدبي، قياسًا إلى عمره، لكنه وضع في هذا العمل كل ما استطاع من خبرة ودربة حصلها من الحياة والقراءة، وكل ما جادت به ذائقته وموهبته، التي ستدفعه، في قابل الأيام، إلى إبداع أعمال أخرى ننتظرها.

مقالات ذات صلة

رواية صمت البحر

اضغط على الاعلان لو أعجبك

رواية “عشرة طاولة”.. حياة العابرين في زمن الثورة

توفيق الحكيم من فنان الفرجة إلى فنان الفكر

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د. عمار علي حسن

روائي ومفكر مصري

مقالات ذات صلة