الفلسفة والرقص والزمن! .. الجزء الثاني
«الفلسفة نشاطٌ عقلي وحسي يُشكله إيقاع التاريخ، يستكشف الحالة الإنسانية، ويبحث عن المعنى عن طريق الحركة، ويتجسد في لحظة من الحرية»
بصفتها موسيقية، استمعت بيسبالوف إلى نص هيدجر كما لو كانت تستمع إلى أداء باخ (Bach)، (فنان موسيقي)، لقد أدركت أن العناصر جميعها، مثلما هو الحال في فن الفوجا الباروكي (Baroque fugue)، «تعيدنا إلى الموضوع الرئيس المتمثل في الوجود من جوانبه الممكنة جميعها، مع تنوع لا متناهي متصاعد، لكنه دائمًا متطابقٌ مع نفسه». ومع ذلك، سرعان ما خفت حماسة بيسبالوف لميتافيزيقا هيدجر الموسيقية باكتشاف وجودي آخر: سورين كيركجارد، ففي سنة 1934 نشرت ملاحظات بخصوص التكرار لـكيركيجارد (Kierkegaard’s Repetition 1843)، وهو العمل الذي أكد على موسيقى التكرار (Musicality of Repetition) مثالًا لتحول مستمر!
التكرار لا يضيف شيئًا، بل يبرز فقط ما لا يمكن اختزاله في الوجود الإنساني، التكرار عند كيركيجارد: «إرادة الحياة مرة أخرى ورفض البقاء». فقط عن طريق التكرار يمكننا أن نصبح موضوعات حقيقية. وفي “البُرهة الجميلة” (Beautiful Moment) لـكيركيجارد، وجدت بيسبالوف ما أسمته “اللحظة” (The Instant): تجربة الصمت الأبدي المطلق، وكتبت عن كيركجارد قائلةً: «إن غياب المسار هو المسار الوحيد الذي تريد فلسفته اتباعه».
ظهرت مجموعة مقالات بيسبالوف التي جاءت تحت عنوان “المسارات ومفترق الطرق” (Paths and Crossroads – Cheminements et Carrefours) سنة 1938. وتضمن الكتاب المخصص لـشيستوف نصوصًا عن الكاتب الأمريكي – الفرنسي جوليان جرين (Julien Green 1900 – 1998)، والفيلسوف الفرنسي أندريه مالرو (André Malraux 1901 – 1976)، ومارسيل، ومقالين عن كيركجارد. وفي فصلٍ تحت عنوان “شيستوف قبل نيتشه” (Shestov before Nietzsche) تُعلن بيسبالوف الحرب على مُعلمها لإنكاره التام لأي احتمال للحقيقة. وكتبت قائلة: «إن شيستوف، برفضه التفكير، عاد إلى عقيدة أخرى، وهي النسبية الراديكالية (Radical Relativism) التي تحولت في النهاية إلى عدمية (Nihilism)». وفي مواجهة رفض شيستوف للعقل، تطرح بيسبالوف محاولة نيتشه للوصول إلى الحقيقة من حياة المرء وداخلها. لقد اعتقدت أن مفهوم نيتشه عن إرادة الحقيقة (Will to Truth) يمكن أن يصالحنا مع مأساة الوجود. وفي حين رأى شيستوف فجوة لا يمكن ردمها، قفزت بيسبالوف: في هذه اللحظة، أصبحت السعادة في متناول أيدينا. ولقد ترك “الوعي السعيد” (Happy Consciousness) لدى بيسبالوف انطباعًا عميقًا على كامو الذي قرأ الكتاب من كثب في صيف سنة 1939.
تزامنت كتابات بيسبالوف عن كيركجارد مع نشر دراسات جان وال بخصوص كيركجارد (Wahl’s Kierkegaardian Studies 1938)، وهي شهادة على صداقتهما وتعاونهما مدى الحياة. كانت بيسبالوف مع وال من رواد الموضة في باريس. وبتقديم فلسفة كيركجارد المناهضة للهيجلية إلى فرنسا، مهدا الطريق للوجودية التي ازدهرت في باريس في زمن الحرب. كانت مغامراتهما في الوجودية المسيحية بمنزلة رد فعل مباشر على إحياء هيجل في فرنسا بتحريض من محاضرات الفيلسوف والسياسي الفرنسي ألكسندر كوجيف (Alexandre Kojève)، التي عُقِدت بين عامي 1933 و1939. وكان كوجيف، وهو مهاجر آخر من الإمبراطورية الروسية، محوريًا مثل شيستوف في تشكيل الحداثة الفرنسية، وكان هؤلاء اللاجئون من أوروبا الشرقية، ومن بينهم بيسبالوف، هم الذين شكلوا مسار الثقافة الفرنسية باستيراد تيارات جديدة إلى باريس، بما في ذلك السريالية والماركسية والظواهرية والفلسفة الوجودية.
في ربيع سنة 1938، بدأت بيسبالوف في إعادة قراءة الإلياذة مع ابنتها نعومي (Naomi). وسرعان ما تحولت ملاحظاتها الموسعة إلى مقال رائع عن قصيدة هوميروس الملحمية. لقد أزعجتها وفاة شيستوف في ذلك العام بشدة، ووصفت شيستوف، في رسالة إلى وال، بأنه أحد الرجال النبلاء القلائل الذين عرفتهم. انتقلت العائلة إلى منزل زوجها في جنوب فرنسا سنة 1939. وقبل احتلال النازيين لباريس مباشرة، كتبت رسالة إلى مارسيل قائلة: «كلما تفاقمت الأمور، أدركت أنك لا تستطيع أن تحب الحياة، واكتشفت مزيدًا من الحاجة الملحة لإيجاد أسباب جديدة لحبها، وأخشى أن هذه المرة لن أتمكن من ذلك، الأمر الذي سيكون أسوأ من الموت!».
أصبح عملها في مقال الإلياذة بمنزلة طريقة وجودية لمواجهة الحرب، لكنها انتبهت إلى نص مماثل لمعاصرتها سيمون فايل، ظهر في دفاتر الجنوب (Cahiers du Sud) سنة 1940 تحت عنوان “الإلياذة أو قصيدة القوة” (The Iliad, or the Poem of Force). بعده بدأت بيسبالوف مراجعة مقالها، استجابت على نحو نقدي لإدانة فايل لأي استخدام للقوة. وبعد أن عاشت يهودية في فرنسا الفيشية (Vichy France)، أصبحت بيسبالوف يائسة وقانطة على نحو متزايد، وذلك لسبب وجيه، ففي نوفمبر من سنة 1941، كتبت إلى مارسيل: «أشعر كما لو أنني عالقة في حُلم حزين ومضطرب وعبثي، وأنا خائفة جدًا من الاستيقاظ». لقد سجن الجستابو (Gestapo) صديقتها فايل وعذبها، وهي أيضًا يهودية، وكان الأسوأ أن يأتي عديدٌ من اليهود في باريس!
سنة 1942، تمكنت بيسبالوف من الفرار، إذ صعدت على متن إحدى السفن الأخيرة التي غادرت فرنسا التي احتلها النازيون، مع والدتها وابنتها ومكتبتها والبيانو الكبير. وبعد أن فرت بصعوبة من معسكر اعتقال خارج باريس، انضمت إليهم فايل، وبتشجيع منها، بدأت بيسبالوف في إعادة صياغة مقالها عن الإلياذة، وأنهت ملاحظاتها في منفى آخر: نيويورك.
نُشر كتاب “في الإلياذة” (On the Iliad) بالترجمة الإنجليزية سنة 1943، وقد وصف الكتاب الحرب بأنها: «مسألة مطلقة تتمثل في خسارة كل شيء من أجل الحصول على كل شيء». أو على حد تعبير الشاعر والفيلسوف الوجودي بنيامين فوندان (Benjamin Fondane 1898 – 1944) في رسالة إلى زوجته، أصبحت الحرب بمنزلة: «اللحظة التي نعيش فيها فلسفتنا الوجودية». لقد شعر هوميروس، وفقًا لـبيسبالوف، بالرعب الشديد والحب الشديد للحرب. وفي حين ادعت فايل أن القوة تحول الموضوعات إلى أشياء، أكدت بيسبالوف على لحظات قصيرة من الجمال تحدث في خضم العنف: مع شن الحرب في كل مكان، ثمة لحظات وميض من الكرم والنعمة!
في الإلياذة، القوة حقيقةٌ عُليا ووهم في الوقت ذاته. إنها وفرة الحياة ذاتها، «ضربة خاطفة قاتلة، إذ يبدو أن الحساب والمصادفة والقوة يندمجون في عنصر واحد لتحدي مصير الإنسان». ولا يعني هذا أن بيسبالوف تُمجد العنف، لكن تجربة الحرب العالمية الثانية جعلتها تدرك حتمية القوة وقدرتها على تغيير فهم الفرد للمأزق الإنساني. وفي قلب مقالها يوجد هيكتور (Hector)، بطل المقاومة الذي يجسد العدالة والشجاعة، مثل كل إنسان في الإلياذة، لا يستطيع هيكتور الفرار من مصيره، وهو يعرف ذلك. إن هروب هيكتور من القوة قصير، لكنه يحمل كابوسًا أبديًا، هذه هي المدة الزمنية المرعبة للحرب التي شهدتها بيسبالوف مباشرة.
الأجزاء الأكثر سحقًا في إلياذة بيسبالوف مخصصة لـ”هيلين” (Helen)، المرأة التي تتماثل معها بوضوح، ترتدي حجابًا أبيض طويلًا، وهي الشخصية الأكثر صرامة في قصيدة هوميروس. هيلين جميلة وبائسة على نحو لا يطاق، استيقظت في المنفى ولم تشعر بشيء سوى الاشمئزاز البليد من النشوة الذابلة التي تجاوزت آمالها، إنها أسيرة سلبيتها، مجبرة على العيش في رعب من نفسها. وفي نهاية المطاف، فإن وعد هيلين بالحرية، مثل وعد بيسبالوف، لم يتحقق بعد. تراقب هيلين، بلا حول ولا قوة، الرجال الذين خاضوا الحرب من أجلها، وتراقب إيقاع المعركة المتغير، إن الفواصل التي تقطع القتال هي لحظات صمت نادرة: «ساحة المعركة هادئة. على بعد خطوات قليلة من بعضهما، يقف الجيشان وجهًا لوجه في انتظار القتال الوحيد الذي سيقرر نتيجة الحرب. هنا، في ذروة الإلياذة، توجد إحدى تلك الوقفات، تلك اللحظات من التأمل، عندما تنكسر تعويذة الصيرورة، ويغرق عالم الفعل، بغضبه كله، في السلام!».
في أثناء وجودها في نيويورك، حافظت بيسبالوف على علاقاتها بالحياة الفكرية الباريسية من منفاها عن طريق تبادل الرسائل مع فيسار ومارسيل. حصلت على وظيفة في إذاعة صوت أمريكا الفرنسية قبل أن تنتقل إلى كلية ماونت هوليوك (Mount Holyoke College) في ماساتشوستس (Massachusetts)، إذ درَّست الأدب الفرنسي. أصبح جبل هوليوك موقعًا مهمًا للثقافة الفرنسية في الولايات المتحدة في أثناء الحرب، وفي تجمعات العلماء المنفيين التي نظمتها فايل، التقت بيسبالوف بعدد من الفلاسفة، أبرزهم جاك ماريتان (Jacques Maritain) وأندريه ماسون (André Masson) ومارك شاجال (Marc Chagall) وكلود ليفي شتراوس (Claude Lévi-Strauss).
هذه السيدة الصغيرة الداكنة التي ترتدي قفازات بيضاء، كما وصفتها مترجمتها ماري مكارثي (Mary McCarthy)، تركت أيضًا انطباعًا لدى الفيلسوفة الأمريكية – الألمانية الأصل حنة أرندت (Hannah Arendt 1906 – 1975)، التي زارتها في أغسطس من سنة 1944 لإلقاء محاضرة عن فرانز كافكا (Franz Kafka). إن قراءة أرندت لـكافكا، التي نُشرت لاحقًا في مجلة بارتيزان ريفيو (Partisan Review)، عكست يأس بيسبالوف الوجودي. وفي ظل الغمامة المظلمة للحرب، وصفت أرندت الإنسانية بأنها محاصرة على نحو لا مفر منه في شِباك التاريخ، لقد أصبح “كابوس العالم” (Nightmare of a World) لـكافكا حقيقة. وفي مقال لها عن كامو، وهو آخر أعمالها المنشورة، توضح بيسبالوف كيف أجبر التاريخ جيلها على «العيش في مناخ من الموت العنيف!».
بعد الحرب، وعلى الرغم من الاحتفاء بهم في السابق، أصبحت بيسبالوف منتقدةً صريحةً للجيل الجديد من الوجوديين الفرنسيين، وبخاصة سارتر، ففي رسالة وجهتها سنة 1946 إلى عالم الموسيقى بوريس دي شلوزير (Boris de Schloezer)، كتبت بيسبالوف أن: «خواء الذاتية التي يعارضها سارتر بما أسميه الباطنة السحرية لا يشكل أساسًا لنزعة إنسانية جديدة بقدر ما يشكل نذيرًا لتوافق جديد، فبدلًا من تحرير الفرد، دمرت وجودية سارتر الباطنية السحرية التي يمكن للبشر التواصل بها على نحو أصيل بعضهم مع بعض». رأت بيسبالوف، أن سارتر حطم الذات إلى شيء تحت أنظار الآخر. وتتماشى هذه الذاتية الموضوعية تماشيًا غريبًا مع الفردانية (Individualism) الأميركية، التي تطلق العنان لنفسها في العمل لإخفاء غياب الفرد. ومثلها كمثل طروادة هيلين (Helen’s Troy)، شعرت الولايات المتحدة بالملل والعداء تجاه بيسبالوف!
كانت رحلة بيسبالوف إلى جبل هوليوك المنفى الأخير لها. وفي أثناء استراحة الفصل الدراسي، في أبريل من سنة 1949، ولأسباب غير واضحة تمامًا، أغلقت أبواب مطبخها وأشعلت فرن الغاز! انتهى شرودها المعقد بإيقاع مأساوي! لقد كتبت في وقت سابق عن السعادة التي يمكن العثور عليها في لحظة، وفي ملاحظتها الأخيرة، في إشارة إلى ادعاء كامو، كتبت: «يمكن للمرء أن يتخيل سيزيف سعيدًا (Sisyphus)، لكن الفرح بعيد عن متناوله إلى الأبد!».
أخيرًا، وعلى الرغم من نسيانه إلى حدٍ كبير، فإن إرث بيسبالوف لا يزال حيًا في صدى دوراناتها، إنها تذكرنا بأن الفلسفة ليست مخصصة للمثقفين فقط، وأن الحكمة الحقيقية توجد في الطريقة التي نتحرك بها، والطريقة التي نشعر بها، والطريقة التي نعيش بها. لذا، في المرة القادمة التي تجد فيها نفسك ضائعًا في القلق الوجودي، لا تلجأ إلى سارتر، بل اصعد إلى مسرح حياتك الخاصة، واحتضن الموسيقى بداخلك، وارقص في طريقك نحو الأصالة. إن احتضان الحياة المتجسدة يتطلب الممارسة، ابدأ بالانتباه إلى أحاسيسك الجسدية، والطريقة التي يتحرك بها جسمك، والطريقة التي يتفاعل بها مع العالم من حولك، ثم لتكن حركتك تعبيرًا عن عالمك الداخلي، عن أفراحك وأحزانك، عن آمالك ومخاوفك!
الخلاصة: لم تكن راشيل بيسبالوف محض فيلسوفة، بل دليلًا حيًا على أن الحياة ليست بروفة، وإنما رحلة كبيرة إلى المجهول، لذا، خذ قفزة إيمانية، وتحرك في الحاضر، وكن النسخة الإنسانية الأكثر روعة لنفسك، بيسبالوف الثوب الأحمر يدور في الغبار، والفلسفة في كل قفزة، والوجود يتحرك!
مقالات ذات صلة:
محمد عزيز الحبابي مشروع فلسفي بنكهة أدبية
حياة الفلاسفة: رَفَه الجهل ومعاناة الحكمة
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا