العقل ومدارس الفلسفة الإسلامية .. الجزء العاشر
المدرسة المشَّائية: (8) الفارابي: المعلم الثاني وفيلسوف المسلمين
“آراء أهل المدينة الفاضلة”(4)
تحدثنا –صديقي القارئ صديقتي القارئة– في الدردشة السابقة (ج 9)، عن التفسير العقلي لظاهرة النبوة، كما قدمه الفارابي. نواصل في هذه الدردشة بقيةَ حديثِنا عن الفارابي وكتابه: “آراء أهل المدينة الفاضلة”، لنحاول أن نقارب فلسفةَ الفارابي السياسية؛ الفارابي هو مؤسس الفلسفة السياسية في الإسلام، وقد تجلت عبقريتُه المبدعةُ في تحليله السياسي العميق لكل من المدينة الفاضلة ومضاداتها من المدن غير الفاضلة.
3. المدينةُ الفاضلةُ والمدنُ غيرُ الفاضلة
إنَّ غرضَ الفارابي تعريف الناس بالآراء الفلسفية التي تجعل من مدنهم فاضلة وسعيدة، وتجعل من أهلها فضلاء سعداء. كان الأمر الأول: معرفتهم بالحق الأول تعالى وصفاته (راجع ج 7). والشيء الثاني الذي ينبغي عليهم معرفته: كيف صدرت الموجودات عن الأول تعالى؟ أي ما يعرف بنظرية الفيض عند الفارابي (راجع ج8)، والأمر الثالث: ما طبيعة المدينة الفاضلة وما طبيعة المدن المضادة لها، أعني المدن غير الفاضلة؟ وفي هذه الآراء الفلسفية التي يعرضها الفارابي تتجلى الحكمة الاجتماعية والسياسية والنفسية والأخلاقية، التي تحقق للناس –أفرادًا ومدنًا ومجتمعاتٍ– السعادة الحقيقية الكاملة.
أ. احتياج الإنسان إلى الاجتماع والتعاون: الإنسان كائن اجتماعي
لا يستطيع الإنسان أن يحيا ولا أن يبلغ كماله إلا في مجتمع، لأن –كما يقرر الفارابي–: “كلُ واحدٍ من الناس مفطورٌ على أنه محتاج، في قوامه، وفي أن يبلغ أفضل كمالاته، إلى أشياء كثيرة لا يمكن أنْ يقومَ بها كلها وحدُه، بل يحتاج إلى قومٍ يقومُ كلُ واحدٍ منهم بشيء مما يحتاج إليه. ولهذا كثرت أشخاصُ الإنسان، فحصلوا في المعمورة من الأرض، فحدثت منها الاجتماعات الإنسانية“. وهذه الاجتماعات يقسمها الفارابي قسمين: كاملة وغير كاملة.
ب. تقسيم المجتمعات: كاملة وغير كاملة
يقسم الفارابي المجتمعات إلى قسمين رئيسين: مجتمعات كاملة، ومجتمعات غير كاملة. والمجتمعات الكاملة ثلاثة: العظمى: أي المعمورة كلها (الإنسانية كلها، مجموعة أمم)، والوسطى: اجتماعُ أمةٍ في جزء من المعمورة: وهي الأمة، والصغرى: اجتماع أهل مدينة في جزء من مسكن أمة، وهي المدينة (المجتمع مثل بغداد، ودمشق، والقاهرة).
المجتمعات غير الكاملة أربعة: القرية، المحلة (مجموعة من المنازل)، السكة (شارع في محلة)، المنزل (بيت في شارع)، وهو أصغر اجتماع، فالمنزل جزء السكة، والسكة جزء المحلة، والمحلة جزء القرية، والقرية خادمة للمدينة، والمدينة جزء مسكن أمة، والأمة جزء جملة أهل المعمورة.
ج. السعادة والخير لا ينالان إلا بالمدينة الفاضلة
في ذلك يقول الفارابي: “والخير الأفضل والكمال الأقصى يُنال بالمدينة، لا بالاجتماع الذي هو أنقص منها، فلذلك كلُ مدينةٍ يمكن أن يُنال بها السعادةُ. فالمدينة التي يقصد بالاجتماع فيها التعاونُ على الأشياء التي تُنال بها السعادةُ في الحقيقة، هي المدينةُ الفاضلة. والاجتماعُ الذي به يُتعاونُ على نيل السعادة هو الاجتماعُ الفاضل. والأمةُ التي تتعاون مدنُها كلُها على ما تنال به السعادة هي الأمة الفاضلة. وكذلك المعمورة الفاضلة، إنما تكون إذا كانت الأمم التي فيها تتعاون على بلوغ السعادة”.
المدينة الفاضلة شبيهة بالجسم التام الصحيح الذي تتعاون أعضاؤه كلها لتحقيق الحياة والمحافظة عليها. وكما أن مختلف أجزاء الجسم الواحد مرتب بعضها لبعض، وتخضع لرئيس واحد، هو القلب، كذلك يجب أن يكون الحال في المدينة: “وكذلك المدينة، أجزاؤها مختلفة الفطرة، متفاضلة الهيئات. وفيها إنسان هو رئيس، وآخر يقرب مراتبها من الرئيس”. فما صفات رئيس المدينة الفاضلة ومن هو الرئيس الفاضل عند الفارابي؟
في الدردشة القادمة –بإذن الله– نواصلُ بقيَّةَ حديثنِا عن الفلسفة الفارابية لنتعرف: القول في العضو الرئيس –قلب المدينة الفاضلة وعقلها–: الحاكم الفاضل، وخصال رئيس المدينة الفاضلة.
مقالات ذات صلة:
الجزء الأول من المقال، الجزء الثاني من المقال، الجزء الثالث من المقال
الجزء الرابع من المقال،الجزء الخامس من المقال، الجزء السادس من المقال
الجزء السابع من المقال، الجزء الثامن من المقال، الجزء التاسع من المقال
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
*********
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا