الفرق بين التفكير الاستقرائي والاستنباطي
التفكير هو حركة الذهن في ما هو معلوم لديه للوصول إلى ما يجهله، وهو العملية المميزة للعقل الذي به يتميز الإنسان عما دونه من الكائنات،
فالإنسان حيوان ناطق -كما يعرفه الفلاسفة والحكماء- أي أنه جسم نامٍ (ينمو) متحرك بالإرادة -وهو الجانب الذي سنتطرق إليه بمزيد من التفصيل لاحقًا- يعقل ويعبر عن هذه العقلانية، وهو المراد بالناطقية وليس فقط الكلام أو الحديث.
الفرق بين التفكير المجرد والمحسوس
الإدراك الحسي والخيالي (التفكير المحسوس)
كما اتفقنا سنتطرق إلى الكلام عن الجانب الحيواني (الجسدي أو الجسماني) من الطبيعة الإنسانية، وهو الجانب القادر على القيام بعملية الإدراك لما هو محسوس أو مادي، فحين تنظر أنت من النافذة تجد أمامك شارعًا -واسعًا كان أو ضيقًا- يمر به المارون والسيارات، تسمع ضجيجهم وأبواقهم، ربما تشتم رائحة ذلك الشواء الشهي من المطعم القريب،
كل هذا يمكن أن نطلق عليه “الإدراك الحسي” أو “المحسوس”، حيث أنه يكون بالإدراك المباشر لحواسك الخمس لما هو حولك، وهو الإدراك الذي يستطيع به الإنسان الارتقاء للإدراك الخيالي، وهو إدراك ما بين المحسوس والمجرد، حيث يكون الإدراك هنا لما هو حسي ولكن بعد انقطاع الحس عنه.
دعني آخذك قليلًا لرحلة لطيفة عزيزي القارئ، أغمض عينيك قليلًا واسترخِ، ولترَ نفسك في بقعتك المفضلة من العالم، ربما تكون حديقة غناء أو بحرًا واسعًا تتلاطم أمواجه أمام ناظريك، بين يديك مشروبك المفضل، قهوتك الدافئة بمرارتها المحببة، أو عصير مثلج تتراقص على كوبه قطرات الندى، هل “تخيلت” معي؟
هكذا هو الإدارك الخيالي حيث يمكن أن تتذكر ما رأيته من قبل (الحفظ)، أو أن تتركب في ذهنك صورًا لما قد رأيته من قبل، فبقليل من الجموح تستطيع تخيل جبل من الشمع، أو أنهار من الشوكولاتة الشهية كما في الفيلم الشهير (تشارلي ومصنع الشوكولاتة).
هل يتميز الإنسان عن الحيوان بقدرته على الخيال؟
في كل ما سبق كان المحسوس هو السبيل للإدراك، سواء كان هذا بإدراك مباشر محسوس، أو إدراك خيالي، وهو إدراك يتشارك فيه كل من الإنسان والحيوان، والإنترنت يا عزيزي يعج بتلك الحيوانات القادرة على الإتيان بأعمال مبهرة لما لديها من ذاكرة قوية أو خيال خصب ندعوه مكرًا أو دهاء،
وهو تفكير ربما يتفوق الإنسان في مجالاته أو القدرة على استخدامه، ولكن هذا التفوق إنما يأتي من المرتبة العليا من التفكير، تلك المرتبة التي يكون معها الإنسان إنسانًا، عاقلًا مدركًا، له القدرة على التفكير المجرد.
الإدراك العقلي (التفكير المجرد)
والإدراك المجرد هو إدراك المعاني الكلية التي لا تحمل وجهًا ولا يمكن وصفها بأبعاد أو صفات محسوسة، فالعدل مثلًا يا صديقي لا نعرف له لونًا أو طولًا أو هيئة أو حتى طعمًا أو رائحة، تعجز الحواس عن رؤيته رأي العين،
وإنما العقل بإدراكه المجرد وحده هو القادر على معرفة معناه، ومن ثم استنباط تجلياته وتجسده في المواقف الحياتية، لذا كان التفكير المجرد هو المرتبة الإنسانية من التفكير، والتي بها يستطيع الإنسان إدراك معنى الإنسانية نفسها.
الفرق بين التفكير العاطفي والمنطقي
ذهب البعض لتفسير هذا التميز الواضح للإنسان بالعاطفة، وهي الفكرة التي ناقشتها كثير من الأعمال الأدبية والسينمائية، وهي فرية واضحة على ما دون الإنسان من كائنات، فهل تستطيع العين إغفال أمومة القططة مثلًا وخوفها على أولادها؟ أو تجاهل الغضبة التي تصيب الكلب إذا ما اهتاج لاقتحام أحد الدخلاء منطقته؟
إن العاطفة موجودة لدى الإنسان والحيوان، ولكن ما يميز الإنسان هو قدرته المدهشة على الفهم المجرد لتلك العواطف دون الحاجة للشعور بها أحيانًا، فأنت أيها القارئ تستطيع فهم ومعرفة عاطفة الأمومة ولو لم تذقها من قبل، وكذلك أيتها القارئة تستطيعين بالمثل مع عاطفة الأبوة.
وعلى الرغم مما سبق، إلا أنه للأسف يترك الإنسان نفسه ضحية للوقوع في خطأ التفكير العاطفي، حيث يترك العنان لعاطفته وشهواته ورغباته كي تتحكم في أفكاره وسلوكه وتسوقه إلى مصير هو للحيوان أقرب، وربما أسوأ، لما تميز به الإنسان من قدرة على معرفة تلك العواطف والتحكم بها، فجعل من غضبته مثلًا ذريعة لعدة حماقات، ناسيًا ما لديه من قدرة على التفكير المنطقي للتغلب على تبعات الاتباع الأعمى لعاطفته أو شهواته.
التفكير المنطقي من أين يبدأ؟
والتفكير المنطقي هو الذي به يتميز الإنسان العاقل عن العاطفي والأحمق والجاهل، وهو اتباع العقل لقواعد التفكير المنطقية، والتي تنطلق من حقائق (مستدل عليها بالضرورة) لمعرفة الحقائق والوصول إليها، ولعل أوضح هذه الحقائق هي المنطلقات العقلية وهي:
البديهيات العقلية:
وهي قوانين يؤمن بها العقل بداهة لوضوحها كـ:
الكل أعظم من جزئه:
فلا يمكن للعقل بداهة أن يصدق أن يكون النصف أكبر وأعظم من الواحد، حيث أن الواحد جزؤه النصف.
استحالة اجتماع النقيضين:
كما لا يمكن للعقل بداهة أن يصدق في اجتماع الوجود والعدم في آن واحد، ففي حين يمكن لصديقك الذي يجاورك أن يكون “موجودًا” معك الآن في المكان والزمان، فإنه لا يمكن أن يكون “معدومًا” أو غير موجود في نفس اللحظة والموضع،
ربما يغيب بعد حين، كأن يكون موجودًا الآن وغائبًا غدًا، أو يغيب عن المكان كأن يكون موجودًا هنا بجوارك وليس في منزله الآن، ولكن يستحيل عقلًا أن يجتمع فيه الوجود والعدم في نفس الجهة والزمان والمكان.
المحسوسات:
وهي الحواس الخمسة وقدرتها على نقل الواقع المادي والمحسوس بكل أمانة، فالعين حين ترى الشمس بحجم صغير، فما هذا إلا الحقيقة التي يجب أن تمر على العقل ليفهمها بشكل صحيح، فيعرف أن حجمها صغير نظرًا لبعد المسافة الكبيرة بين الأرض والشمس، فكانت العين ناقلًا أمينًا للواقع وكان العقل فاحصًا ومدققًا لذلك النقل.
المجربات:
أو التجارب العلمية المثبتة والتي راعت القواعد العقلية والعلمية في البحث، لا مجرد النظريات والفرضيات.
التواتر:
وهو ما اتفق عليه أكثر من مصدر لا تجمعهم صلة أو رابط، كثقتك في وجود مدينة تدعى “موسكو” مثلًا لما تواتر عليه الناس من وجودها، وزيارة بعضهم لها، ووجود أهلها في كل بقاع الأرض.
اقرأ أيضاً:
التفكير الإبداعي، خصائصه ومراحله وأنواعه وما هي معوقاته؟
سيمفونية الإدراك وسؤال «مولينو» المُحير!
الفرق بين التفكير الاستقرائي والاستنباطي
والتفكير المنطقي كما أسلفنا هو طريق الإدراك العقلي للوصول إلى الحقائق، ويمكن تحقيق ذلك بالاستدلال، فيكون الاستدلال إما استنباطي (قياسي) أو استقرائي.
التفكير الاستقرائي (التعميم على الكل من موقف جزئي)
والاستقرائي وهو الأقل قدرة على الوصول إلى الحقائق والتيقن منها، حيث إنه يكون بالانتقال مما هو جزئي وتفصيلي إلى تكوين القاعدة العامة والحكم، وقد يقع الإنسان مع استخدامه في مغالطة التعميم، كأن يقول مثلًا أن محمدًا المصري مخترع، إذن فكل مصري مخترع، وهو ما قد لا يكون صحيحًا بالضرورة.
وخطورة التفكير الاستقرائي هي في إقرار ما ينتج عنه من أفكار بشكل يقيني ومؤكد، وتبنيها دون وجود دليل حقيقي يطابق الواقع في كل مرة.
التفكير الاستنباطي (الانطلاق من القاعدة الكلية)
والاستنباطي أو القياسي هو الاستدلال المنطقي السليم، والذي باستخدامه بشكل صحيح -توافر المعلومات الصحيحة والمقدمات اليقينية- من المؤكد أن تصيب الحقائق، مثلًا:
محمد مصري => كل مصري عربي => إذن محمد عربي.
فلما كانت المقدمات صحيحة من حيث كون محمد مصري، وكون كل مصري عربي كانت النتيجة حقيقية.
بينما على الجانب الآخر، إذا ما استخدمت مقدمة ناتجة عن التفكير الاستقرائي مثلًا -كالنتيجة الاستقرائية السابقة كل مصري مخترع- فمن المؤكد أن تكون النتيجة النهائية خاطئة أو مضللة.
الفرق بين التفكير المنهجي والتفكير المنطقي
لا يوجد تعارض أو مقارنة بين التفكير المنطقي والمنهجي، فالتفكير المنهجي هو القائم على مناهج التفكير المختلفة، وهي أربعة أساسية:
المنهج العقلاني القياسي (المعياري):
المنهج الذي يضع العقل حاكمًا على بقية أدوات المعرفة، فيحكم بصحة الخبر المتواتر أو النص، واحتياجه للجوء لهما في معرفة السلوكيات الجزئية التفصيلية.
وبصحة التجربة العلمية الصحيحة وقدرتها على معرفة حقيقة العالم المادي والقوانين المادية التي تحكمه.
وبصحة السلوك القلبي ومجاهدة النفس لاكتسابها الأخلاق الحميدة.
كل ذلك تحت مظلة العقل القادر على طرح الأسئلة الكونية والإجابة عليها بشكل صحيح، وهي من أين؟ وفي أين؟ وإلى أين؟ أو بصيغة أخرى من هو الموجد للعالم؟ وما سبب وغاية هذا الوجود؟ وكيف السبيل إلى تحقيقها؟
التفكير التجريبي المادي:
على الجانب الآخر يأتي المنهج التجريبي المادي لينظر إلى كل شيء بمنظور الإدراك المحسوس فقط، فلا يرى العالم إلا كمجموعة من الذرات والتفاعلات التي لا تحكمها غاية عاقلة،
وفي أفضل الأحوال ربما نظر إليها كغاية لا يمكن الوصول إلى معرفتها بشكل يقيني وأكيد. وقد صيغ هذا المنهج بصورة خادعة ومغالطة تحت شعار “الإيمان بالعلم” فكأنه نزع الإيمان بالعلم عن كل ما دونه، وألصق بهم تهمة الإيمان بالخرافة.
التفكير الإخباري (النصي):
يأتي المنهج الإخباري أو النصي -بغض النظر عن النص نفسه- ليرفض العقل والنظر العقلي، ويضع العقل في منافسة مع النص وقد انتصر فيها للنص! وأغفل حقيقة أن الإنسان كما يحتاج إلى النور ليهتدي في الظلام فكذلك يحتاج إلى عينيه.
التفكير القلبي (الإشراقي):
ينظر المنهج العرفاني الإشراقي إلى الإنسان ككائن قادر على مجاهدة نفسه وطبائعها الشهوانية، ويرى في ذلك السبيل الوحيد للترقي الإنساني، فيغفل عن حاجة الإنسان إلى العقل لمعرفة الهدف من هذا الترقي،
ولأي غاية يجبر جسده على الانصياع لما فيه مخالفة لرغباته المادية، فيلجأ المنهج القلبي للمحبة كأن به يقول: “أحب وستعرف”، بينما الحقيقة أن بمعرفة كمال الخالق سيحب الإنسان، فمن عرف أحب.
والإنسان المنطقي العقلاني هو القادر على التفكير بالمنهجية العقلانية لاستخدام كل أدوات المعرفة من نص وقلب وعقل وحس وتجربة للوصول إلى الحقائق من خلال التفكير المنطقي المعياري.
الفرق بين التفكير الفلسفي والتفكير العلمي
لطالما حاول البعض تقديم التفكير الفلسفي وكأنه في صراع مع التفكير العلمي، وكأن التفكير المجرد هو خبالات فلسفية لا علاقة لها بالواقع، وهو الخلط الخاطئ والمغالطة المهلكة، فكما يحتاج الإنسان إلى حواسه التي تنقل له صورة ما حوله في العالم،
يحتاج إلى عقله القادر على تحليل تلك الصورة واستنباط ما عليه فعله للتعامل مع ذلك العالم، فالتفكير الفلسفي المنطقي لا يمكن أن يتعارض مع العلم، وإنما هو يكمل ما استعصى على التفكير العلمي المحسوس فقط فهمه أو استنباطه.
العلم ضد الفلسفة!
وهذا الخطأ قد وقع فيه العديدون، وعلى رأسهم فرانسيس بيكون، والذي أحيا الفكر العلمي التجريبي المعاصر، وقد استعصى عليه استيعاب ما هو مجرد حتى أنه رفض الرياضيات واعتبرها خزعبلات أو رموزًا سحرية، فكيف للتفكير المحسوس أن يرى الواحد فيما حوله؟ هذا المعنى المجرد البسيط، والقادر وحده التفكير المجرد الفلسفي على إدراكه واستيعابه.
الفرق بين التفكير الأسطوري والعقلاني
مثلما أسلفنا من قبل فإن البعض قد اختلط عليه الأمر بين ما هو ورائي وما هو أسطوري، فجنح البعض -سهوًا أو عمدًا- إلى إلصاق ما هو أسطوري مثل “العنقاء، أو مصاصو الدماء، والمذؤوب” إلى ما هو فلسفي أو مجرد مثل “المعاني والمجردات،
ووجود العلة الأولى، والعلاقة بين الخالق والمخلوق”، وهي التهمة التي ظلمت المعرفة الإنسانية وساعدت على الثنائية التي سبق وتحدثنا عنها، ليحدث الفصل والقطيعة الوهمية بين ما هو فلسفي عقلاني وما هو تجريبي علمي.
*****************
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا