مقالاتمنطق ومعرفة - مقالات

العقل واليقين – الجزء الرابع

القضايا النظرية الكسبية

في دردشتنا السابقة العقل واليقين (3) أم القضايا الأولية حدثتُك- صديقي القارئ صديقتي القارئة- عن القسم الأول من أقسام القضايا اليقينية، وحدثتك عن أم القضايا الأولية. وفي هذه الدردشة نتحدث عن القسم الثاني من أقسام القضايا اليقينية: القضايا النظرية الكسبية، ونحاول أن نجيب عن السؤال: كيف يمكن لهذه القضايا النظرية أن تكون- بكسب الاستدلال- يقينية؟

(1) المشاهدات أو المحسوسات

المشاهدات أو المحسوسات: قضايا يصدق بها العقلُ بواسطة الحس.

وهي قسمان:
القسم الأول:

الحواس الظاهرة: وتشمل الحواس الخمس: الشامة والذائقة واللّامسة والباصرة والسامعة.
القسم الثاني:

الحواس الباطنة: وهي خمس أيضًا: الحس المشترك، والوهم، والخيال، الحافظة، المفكرة. والقضايا المُدركة بواسطة الحس الباطن تسمى “وجدانيات”؛ كالعلم بأنك جائع أو خائف أو متألم أو فرحان إلخ.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

هذه المحسوسات قد تخطيء، فلو نظرت إلى نجمة بعيدة في السماء، فستتراءى لك صغيرةً، مع أنها كبيرةٌ في الواقع. فلا يحصل يقين بالمحسوسات، وإنما يحصل جزم. ولكنه جزم يزول. لذلك كانت المحسوساتُ جزئيةٌ ولا تفيد اليقين. فكيف تكون قسماً من أقسام اليقين؟ وبعبارة أخرى متى تفيد المحسوساتُ اليقين؟ لكي تكون المحسوساتُ يقينيةً تحتاج إلى الاستدلال العقلي؛ بأن ينضم إليها مقدمةٌ كبرى عقليةٌ (راجعةٌ إلى مبدأ عدم التناقض).

 (2) التجريبيات أو المجربات

التجريبيات: هي نفس المشاهدات مع إضافة تكرار المشاهدة. وتسمى المجرباتُ بالاستقراء وهو نوعان: استقراء تام (مثل عدد أيام الأسبوع سبعة، فهذا استقراء تام، حصر أيام الأسبوع حصراً تاماً أفاد اليقين). واستقراء ناقص (مثل هذه القطعة من الحديد تتمدد بالحرارة وهذه القطعة من الحديد تتمدد بالحرارة، وثالثة ورابعة إلخ، لكنك لن تدعي أنك اختبرت كلَ قطع الحديد في العالم، لذلك فاستقراؤك يسمى هاهنا استقراءً ناقصاً). والاستقراء الناقص لا يفيد اليقين إلا إذا انضمت إليه مقدمةٌ عقليةٌ كليةٌ (راجعةٌ إلى قاعدة عدم التناقض).

(3) المتواترات

المتواترات: هي إخبارُ جماعةٍ من الناس عن جماعةٍ من الناس بقضية ما. وأفراد هذه الجماعة المخبرة يستحيل تواطؤهم أو اتفاقهم على الكذب، ويمتنع اتفاقُ خطئِهم في فهم القضية التي يخبرون بها (فلو لم تشاهد التلفاز ولم تطلع على وسائل التواصل الاجتماعي، وأخبرك عددٌ من أصدقائك، في أماكن وأزمنة مختلفة، تمنع اتفاقهم على الكذب عليك، بأن محمد صلاح أحرز الهدف رقم مائة في الدوري الإنجليزي، فسوف تصدق يقيناً بخبرهم). ولا يرتبط اليقين بعدد مخصوص من المخبرين تؤثر فيه الزيادة أو النقصان. والمتواترات قضايا استقرائية أيضًا، ولكي تكون المتواتراتُ يقينيةً يجب إضافةُ مقدمة عقلية كلية إليها.

(4) الحدسيّات

الحدسيات: هي قضايا مبدأ الحكم بها حَدْسٌ قوي جداً، يزول معه الشك ويذعن الذهنُ بمضمونها، أي؛ يحصل الاطمئنانُ بها. كقولنا إن نور القمر مستمد من الشمس؛ فإننا لما شاهدنا اختلاف حال القمر في تشكلاته النورية بحسب اختلاف أوضاعه من الشمس قربًا وبعداً، حدسنا منه أن نوره مستمد من الشمس. وهذا الاطمئنان أمر شخصي قد لا يمكن نقله إلى الغير؛ لذلك يختلف الناس في الحدسيات والمجربات والمتواترات وإن كانت كلها من أقسام البديهيات فهي لكي تصير يقينيةً تحتاج إلى قياس كما قلنا.

(5) الفطريات

الفطريات: هي القضايا التي عرفت لا بنفسها بل بوسط. أي القضايا التي قياساتها معها، ويحكم بها العقل بواسطة لا تغيب عن الذهن عند تصور الطرفين، كقولنا: الأربعة زوج، بسبب وسط حاضر في الذهن، وهو الانقسام بمتساويين. فهذا الوسط متصور في الذهن عند تصور الأربعة زوجاً.

والخلاصة:

الحسيات، والتجريبيات، والمتواترات، والحدسيات، والفطريات، كلها قضايا كسبية نظرية، تحتاج إلى استدلال. لكنها قضايا قريبة من الأوليات؛ لأن جميعها يجب أن ترجع إلى قضية أولية بديهية، لذا سميت باليقينيات باعتبار انضمام قياس عقلي إليها، وهذا القياس العقلي يجب أن يرجع إلى أم القضايا الأولية: استحالة اجتماع النقيضين، والتي عليها تُؤسسُ جميعُ القضايا اليقينية الأخرى، وعليها يُبنى صرحُ المعرفةِ البشرية، وعليها تدورُ كلُ مجادلاتنا العقلية.

والسؤال الآن: ما علاقة الجدل بالعقل، هذا هو موضوع دردشتنا القادمة بإذن الله.

اقرأ أيضاً:

الجزء الأول من المقال

الجزء الثاني من المقال

الجزء الثالث من المقال

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

*****************

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ.د شرف الدين عبد الحميد

أستاذ الفلسفة اليونانية بكلية الآداب جامعة سوهاج