مقالاتمنطق ومعرفة - مقالات

العقل واليقين – الجزء الثالث

أمُ القضايا الأوليّةِ

في دردشتنا السابقة “العقل واليقين (الجزء الثاني) أركان اليقين الأربعة” حدثتُك -صديقي القارئ صديقتي القارئة- عن أركانِ اليقينِ الأربعة: الجزم بثبوت المحمول للموضوع، الجزم باستحالة انفكاك المحمول عن الموضوع، وأن الجزم الأول والثاني لا يزولان دائمًا وأبدًا. وفي هذه الدردشة نتحدث عن تقسيم القضايا اليقينية إلى قسمين رئيسين: أوليّة بديهية ونظرية كسبية.

ليست القضايا اليقينية قسمًا واحدًا بل تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: قضايا يقينية بديهية حاضرة عند العقل، أي لا تحتاج إلى استدلال. والقسم الثاني: قضايا نظرية كسبية أي غائبة عن العقل، وتحتاج إلى الطلب والكسب، أي تحتاج إلى استدلال عن طريق إرجاعها إلى مقدمة أولية بديهية. والأوليات هي أصول اليقينيات ورأس المال الفكري الذي نمتلكه عن كل شيء. ولعلك تتساءل الآن: كم قضية يقينية نعرفها؟

القضايا اليقينية -بحكم الاستقراء- وما اكتشفناه إلى الآن ستة أقسام، جميعها نظرية كسبية إلا قسم واحد فهو أولي بديهي. وهو القضايا الأولية، أما ما عدا القضايا الأولية فكلها قضايا نظرية كسبية.

لنتحدث -أولًا- عن الأوليَّات:

استحالة اجتماع النقيضين: أم القضايا الأولية البديهية

الأوليات:

هي القضايا التي لا تحتاج إلى دليل وراء ذاتها، فالعقل بمجرد أن يتصور الطرفين: الموضوع والمحمول “كل إنسان (موضوع) يموت (محمول)” تصورًا صحيحًا يجزم بصدقها. وهي مختصرة في مصداق واحد: استحالة اجتماع النقيضين، أو قاعدة عدم التناقض.

ولا يمكن إقامة الدليل على هذه القضية الأولية (لأننا إذا أردنا إقامة الدليل على أن مبدأ اجتماع النقيضين محال فلا بد أن نعود إليه، ونبدأ البرهنة من عنده فيحدث ما يسميه المناطقة بـــ “الدَوْر”، أي تدور القضيةُ المرادُ إثباتها لتعود إلى نفسها لإثباتها!

اضغط على الاعلان لو أعجبك

فالدور باطل، لأنه يُستشهدُ فيه على الشيء بنفسه، كإنسان يقول لآخر: ما صفة الفيل؟ فيقول له: صفة الخنزير، والسائل لا يعرف صفة الخنزير، فيقول له: وما صفة الخنزير؟ فيقول له: صفة الفيل، فيرجع إلى أن صفة الفيل هي صفة الفيل!).

وكل قضية يمكن البرهنة عليها ليست من الأوليّات. وعليه لا توجد لدينا من الأوليات إلا قاعدة واحدة هي: “استحالة اجتماع النقيضين”. هذه القاعدة الكبرى التي يُؤسس عليها صرحُ المعرفة البشرية كله.

فلك أن تتخيلَ أن كل َمعارفنا المنطقيةِ وكل فلسفاتنا العقلية وكل الإلهيات العقلية التي نؤمن بها، وباختصار كل علومنا البشرية، إنما تُؤسسُ على هذه القاعدة: استحالة اجتماع النقيضينَ!

ولعلي أسمعك تسأل: وماذا تعني هذه القاعدة الكبرى التي يُؤسس عليها الفكرُ البشري كله؟

إن هذه القاعدة الأساس تعني:

أن الوجود يغاير العدم. ولو لم نعتقد بأن النقيضين لا يجتمعان لتهدم صرحُ العلوم بأكمله، لأننا حينئذ سنصدق بنقيض ما اعتقدنا. فأنت تعتقد أنك موجود، فلا يمكنك أن تعتقد بأنك غير موجود أيضًا مع الاحتفاظ باعتقادك الأول.

فماذا لو اعتقدت بأنك موجود وغير موجود؟ هل تقول أنا موجود وغير موجود؟ سأترك لك الإجابة! حيث إنك -والحالة هذه- تكون قد جمعت بين نقيضين: وجودك وعدم وجودك! أو بمعنى أعم، تكون قد جمعت بين الوجود والعدم، والنقيضان لا يجتمعان يا صديقي، أي حقيقةُ الوجودِ لا تجتمع مع حقيقةِ العدم، كما لا تجتمع حقيقةُ الماءِ مع حقيقةِ النار. ولذلك من أراد أن يهدمَ المنطق والفلسفة والعلوم، عليه أن يهدم هذه القاعدة أولًا!

ولا يقولن أحدهم إن فيزياء “الكوانتم”، أو “ميكانيكا الكم” قد هدمتْ هذا الأساس المكين للمعرفة البشرية، لأن مجال الكوانتم هو العالم “دون الذري” (الجسيمات داخل الذرة، مثل الإلكترونات والبروتونات والنيوترونات إلخ. وما اكتشف منها حتى الآن قد يقارب المئتين أصغرها الكوارك)، ولسنا نتحدث عن العالم ما تحت الذري يا صديقي!

وما المانع إذن أن نشك في كل قوانين ميكانيكا الكم طالما أن النقيضين يجتمعان “بالمعنى المنطقي” فما تثبته ميكانيكا الكم لا ينفي أم القضايا، وإلا لانهارت المعرفة الإنسانية بما فيها معرفتنا بميكانيكا الكم ذاتها!

والخلاصة:

أن ثمة مبدأً لا يسعنا إلا الاعتقاد به، وهو مبدأ استحالة اجتماع النقيضين. هذا المبدأ هو الذي يهبُ الحياةَ والبقاءَ لسائر أفكارنا، وبدونه تموتُ كلُ أفكارِنا، وندخلُ إلى دائرة العبثية، واللا معنى، والعدمية المطلقة، والإلحاد، والانتحار العقلي السريع!

هذا عن القسم الأول من أقسام القضايا اليقينية: القضايا الأولية البديهية، والتي تنحصر في مصداق واحد هو أم القضايا: استحالة اجتماع النقيضين، فماذا عن القسم الثاني: القضايا النظرية الكسبية؟ هذا هو موضوع دردشتنا القادمة بإذن الله.

اقرأ أيضاً:

الجزء الأول من المقال

الجزء الثاني من المقال

هل يوجد واقع؟!

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

*****************

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ.د شرف الدين عبد الحميد

أستاذ الفلسفة اليونانية بكلية الآداب جامعة سوهاج