من خلق الله؟ أين الله؟ وماذا كان يفعل قبل أن يخلق العالم؟ كيف يدبر العالم؟ هل الله يدير العالم مثل ملك بشري لديه كرسي وعرش وحاشية من الملائكة؟ وما معنى كان الله ولا شيء قبله، وكان الله ولا شيء بعده؟ ألا يخضع كل شيء للقبلية والبعدية الزمانية؟ وغيرها من الأسئلة التي يخلقها الوهمُ، تلك القوة التي تلبس المجرداتِ ثوبَ المحسوسات!
تحدثنا -صديقي القارئ صديقتي القارئة- في الدردشة السابقة (العقل والوهم-الجزء الأول) عن الصراع الناشب بين قوى النفس، وخصوصًا الصراع بين العقل والوهم في تصوره لله تعالى وفي تصوره للمجردات عمومًا. ونحاول أن نتعرف -في هذه الدردشة- كيف يؤدي الوهم إلى الإلحاد إن هو استطاع أن يهزم العقل.
الوهم والتمثيل الكاذب
لو طلبت من شخص أن ينام بجانب ميت في القبر ليلًا، فسوف تصيبه حالةٌ من الرعب، مع أن العقل لا يرى فرقًا في المكان بين أن يكون مظلمًا أو منيرًا، فإن المكان هو المكان في الحالين.
وكذلك كونه ميتًا لا يوجب الخوف، إذ لو كان حيًا لا يخاف منه فكيف إذا صار جسدًا هامدًا لا حراك فيه؟ ولكن الوهم يصيره وحشًا مرعبًا. فلو سألت العقل: هل يوجد سببٌ للخوف؟ لأجابك بالنفي. لكن وهمه لا يتركه دون أن يمثل له كل شيء تمثيلًا كاذبًا، لا حقيقة ولا واقع له.
الوهم وإنكار البديهيات
إن القوة الواهمة وقوة الخيال يتدخلان في القوة العاقلة ويحرفانها عن الطريق الصحيح في عملية التفكير والاستدلال، حتى لو كان الإنسان يستدل بالبديهيات، فيتمكن الوهم من السيطرة على العقل، وإرغام النفس على إنكار البديهيات العقلية.
إن عقلًا جبارًا -كعقل بعض الفلاسفة الملحدين- قد أنكر وجوب توقف سلسلة العلل والمعلولات عند علة أولى وجَوّزَ وهمُهُ -الذي لا يستطيع تصور المجردات إلا في ثوب الحس- أن تكون سلسلة العلل إلى ما لا نهاية. وهو حكم للوهم ضد حكم البرهان المنطقي البديهي: الذي يوجب أن تكون لسلسلة العلل نهاية إلى علة أولى هي الله تعالى.
أو ينكر بديهية أن لكل مصنوع صانع ولكل مخلوق خالق، فيتصور الوهم أن الطبيعة خلقت نفسها بنفسها، ثم يضفي على الطبيعة كلَ صفات الله تعالى، فهو لا يتصور خالقًا مبدعًا للكون، ويرتاح وهمُهُ إلى تصور أن الطبيعة المادية -لا الله المجرد عن المادة والحس- هي الخالق البارئ المصور!
الوهم وإنكار المجردات
وعليه، فإن الأحكامَ التي تصدر من الإنسان على قسمين: أحدهما يرتبط بالمحسوسات، والآخر يرتبط بالمجردات. فإذا تدخل الوهمُ في المجردات طالب فيها بأن تكون بحكم المحسوسات، أي أن الوهم يقوم بعملية تحويل المجرد إلى الحسي، وهذه هي لعبته المفضلة! وعلى ذلك ينكر الوهم المجردات إنكارًا تامًا.
الوهم أقوى من البرهان
إن عقل الإنسان يحكم بضرورة وجود الله تعالى بالدليل والبرهان، ويؤمن بأنه تعالى لا يحده مكان ولا زمان، ولا كيف له ولا أين، ولا أول لأوليته ولا آخر لآخريته، ولا يشار إليه، كما يقول فلاسفةُ الإسلام، ولكن الوهم يحكم بأن كل موجود لا بد أن يكون في مكان وزمان، وله بداية ونهاية، وله كم وكيف، فينكر كل برهان، فيكون -ما لم يتدخل العقل- أقوى من كل برهان!
العقل دواءُ الوهم
والخلاصة: يعجز الوهمُ عن إدراك المجردات مالم يتمثلها كمحسوسات. فإن كان الوهمُ مسيطرًا على النفس فلن يدع لها مجالًا للتصديق بوجودٍ مجردٍ عن الزمان والمكان، لا أول له ولا آخر، فينتهي الإنسان إلى الانتحار العقلي: الإلحاد.
وليس ثمة علاج لوهم الإلحاد -ولكل وهم- إلا العقلَ. وتلكم من معاني الحكمة. “يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269)” _البقرة.
إن العقل -وحده- هو القادر على أن ينزع عن الأحكام ثوبَ الحس الذي يضفيه الوهمُ عليها، وهو القادر على مصارعة الوهم وصرعه.
اقرأ أيضاً:
هل يقبل كبار علماء الإلحاد ذلكم التحدي؟!
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
*****************
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا