العقل والمستحيل
هل يستطيع الله أن يخلق مخلوقًا مثله؟ أو هل يستطيع أن يجعل العالم في بيضة واحدة دون أن يُصغِّر العالم أو يُكبر البيضة؟ أليست معجزات الأنبياء مستحيلة عقلا؟ وغيرها من الأسئلة التي تندرج تحت باب الممتنع أو “المستحيل”.
تحدثنا في الدردشة السابقة –صديقي القارئ صديقتي القارئة– عن العقل والتناقض ج1، ج٢) وسنتحدث في هذه الدردشة عن موضوع مهم أيضًا هو: العقل والمستحيل، لكي نستطيعَ أن نجيب –منطقيًا وعقليًا– عن مثل هذه الأسئلة التي تبدو مربكة للشخص الذي لم يعرف العلوم العقلية.
الوجوب: (وجوب الوجود) – الإمكان: (إمكان الوجود وإمكان العدم) – الامتناع: (وجوب العدم):
بدايةً لا بد من التفرقة بين كيفيات ثلاث في القضايا، يسميها المناطقةُ الجهاتِ، هي: الوجوب – الامتناع – الإمكان:
الأولى:
كيفية الوجوب والضرورة، ومعناها: استحالة انفكاك الموضوع عن المحمول، نحو قولنا: الإنسانُ ناطقٌ، فإن المحمول (ناطق) يستحيل انفكاكه عن الموضوع (الإنسان)؛ النسبة بينهما هي نسبة الضرورة والوجوب، ونحو قولنا: الأربعة زوج، فالزوجية الحكم بها ضروري الثبوت ويستحيل تخلفه عن الأربعة.
إذن الواجب هو الذي قد وُجد وظهر، أو ما يكون مما لا بد من كونه.
الثانية:
كيفية الإمكان، ومعناها: أن ثبوت المحمول للموضوع وعدمه ليسا ضروريين، مثل: وجود الإنسان، يمكن أن يوجد ويمكن ألا يوجد، فإن الوجود ليس ضروريًا له، وإلا لما عدم ولكان واجب الوجود بالذات، وهو مستحيل، وكذلك عدم ثبوته له ليس ضروريًا، وإلا لما وجد.
إذن الممكن أو الجائز، هو الذي قد يكون وقد لا يكون، وذلك مثل توقعنا لأن تمطر غدًا، فجائز أن تمطر وجائز ألا تمطر.
الثالثة:
كيفية الامتناع، ومعناها: استحالة ثبوت الموضوع للمحمول، كقولنا: الأربعة فرد، لأن اتصاف الأربعة بالفردية مستحيل.
إذن الممتنع وهو الذي لا سبيل إليه (أو المستحيل)، كمشي الإنسان في الهواء بلا حيلة، أو بقائه يتنفس تحت الماء أيامًا بغير جهاز تنفس، إلخ.
ولهذا الممتنع أو المستحيل أربعة أقسام رئيسة:
أقسام المستحيل الأربعة
الأول:
الممتنع بالإضافة (أو المستحيل النسبي)، وهو إما في زمان دون زمان، أو في مكان دون مكان، أو في حال دون حال، ومثال ذلك: إمكان حمل القوي مائتي كيلو، وعدم حمل الضعيف لها، إلخ.
الثاني:
الممتنع في العادة قطعًا (المستحيل العادي)، وهو الذي تطابقت عادةُ الناس على امتناعه، كانقلاب الجماد حيوانًا، واختراع الأجسام دون تولد، ونطق الجماد، وهذا النوع من الممتنع لا يجوز إلا لنبي معجزةً على نبوته (كل معجزات الأنبياء تندرج تحت المستحيل العادي، يمكن أن يتصورها العقلُ ولا يحيلها، مثل أنني سوف أبني بيتًا في المريخ! وليست من المستحيل العقلي الذي لا يتصوره العقل، ويستحيل وقوعه، ولا يكون أبدًا).
الثالث:
الممتنع في العقل (المستحيل العقلي)، ككون المرء قائمًا قاعدًا في حال واحدة، وكون الجسم في مكانين، ووجود مثلث بأربعة أضلاع، وبالجملة: كل ما ضاد الأوائل المعلومة بأوائل العقل. وهذا النوع لا سبيل إلى وجوده أصلًا، ولا يفعله الخالق أبدًا.
مثل سؤال وضع العالم في بيضة، وما شابهه، من أسئلة غير منطقية أصلًا، ولا تكون أبدًا لأن القول بها فيه فسادُ بنية العالم. (إن لله سننًا في كونه وأن العالم يسير على نظام محكم وقوانين ثابتة، وأن هذا النظام يستحيل خرقه إلا للأنبياء بأمر الله ولوقت محدد وبسبب محدد، ثمَّ يعود –بعدها– العالمُ كما خلقه الله تعالى على سننه ونظامه الثابت،
فلا يجوز خرق هذا النظام، ولا يجوز وجود ذلك لا من ساحر، ولا من صالح، ولا من ولي، ولا من ذي كرامة، بوجه من الوجوه لأنه –كما يقول ابن حزم–: “لم يقم برهانٌ من وجود ذلك ولا صح به نقلٌ وهو ممتنعٌ في العقل، ولو كان ذلك ممكنًا لاستوى الممتنعُ والممكنُ والواجبُ وبطلتْ الحقائقُ كلُها”).
الرابع:
الممتنع المطلق (المستحيل المطلق)، مثل كل سؤال أوجب على ذات الباري تغيرًا، فهذا هو الممتنع لعينه الذي ينقض بعضُه بعضًا ويُفسد أولُه آخرَه، مثل سؤال من يسأل: هل يقدر الله أن يخلق مثله، وهو لا يحدث على الإطلاق.
والخلاصة:
هكذا: تُحلُ أعقدُ المسائل الدينية والفلسفية بمعرفتنا الفارق بين الواجب والممكن والممتنع، وبمعرفتنا أنواع المستحيل. وفي كل ذلك نستند إلى أوائل الحس وبديهيات العقل، وفي ذلك يقول ابن حزم: “ونحن إنما نناظر الناسَ حتى نردهم إلى موجب العقل أو الحس، أو نلزمهم أن يخرجوا عن رتب العقل وإلى مكابرة الحس”.
اقرأ أيضاً:
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
*****************
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا