تحدثنا –صديقي القارئ صديقتي القارئة– في دردشتنا السابقة (العقل والتفكير– الجزء الأول) عن معني الفكر، وعن قسمي الأمور المعلومة والأمور المجهولة: المعلوم التصوري والمجهول التصوري، المعلوم التصديقي والمجهول التصديقي. ونتحدث في هذه الدردشة عن المراحل التي تتم بها عمليةُ التفكير، وكيف تتم هذه العملية.
مراحل عملية التفكير:
عرفنا أن التفكير هو: “حركةُ العقلِ بين المعلومِ والمجهول”. وتمر عمليةُ التفكيرِ بمراحلَ عدةٍ، ينتقل فيها الذهنُ من المعلوم إلى المجهول، وذلك على النحو الآتي:
المرحلة الأولى: مواجهة المُشْكِل
تبدأ المرحلةُ الأولى بمواجهة المُشْكِل المجهول، أو السؤال المطلوب معرفته وحله. وهي مرحلة التحيّر والتساؤل: مثال أن يسألنا سائلٌ: “ما الإنسان؟”، أو أن يطلبَ الدليلَ على أن: “العالم حادث”.
المرحلة الثانية: معرفة نوع المُشْكِل
المرحلة الثانية –بعد مواجهة المشكل– هي تحديد نوعه، وذلك عن طريق معرفة أمرين:
أ. هل هذا المشكل هو مجهول تصوري، أم هو مجهول تصديقي؟
ب. إلى أي حقلٍ معرفي ينتمي –على وجه الإجمال– هذا المُشْكِل؟ هل هو مشكل عقائدي – تاريخي – جغرافي – فيزيائي – منطقي –فلسفي إلخ، أي نذهب إلى الحقل المعرفي، والمعلومات المناسبة لهذا المجهول. (فلا نذهب لمعرفة الحديد يتمدد بالحرارة إلى علم العقائد، ولا نذهب لمعرفة معنى الذرة، أو الإلكترون، أو الثقوب السوداء، أو الكورونا، إلى علم التاريخ!).
مثالنا: ما الإنسان؟ نجيب: أ. هذا مجهول تصوري (أي نريد معرفة ماهيته أو حقيقته). ب. هذا المجهول ينتمي إلى علم المنطق، فنذهب إلى علم المنطق لحل هذا المشكل التصوري.
مثالنا: العالم حادث. نجيب: أ. هذا مجهول تصديقي (أي، نريد الحكم أو الدليل عليه). ب. هذا المجهول ينتمي إلى حقل العقائد وعلم الكلام، فنذهب –لحل هذا المجهول التصديقي– إلى علم الكلام.
المرحلة الثالثة: الحركة الذاهبة
المرحلة الثالثة من مراحل التفكير التي يمر بها الإنسان هي مرحلةُ الحركة الذاهبة، وهي أن نذهب –بهذا المجهول التصوري أو التصديقي– إلى المعلومات الحاضرة في أذهاننا حتى نكتشفَ حقيقةَ الإنسان، أو نقيمَ الدليل على أن العالم حادث.
مثالنا: ما الإنسان؟ نذهب إلى المعلومات التي لدينا في علم المنطق، وهو العلم المناسب لمعرفة التصورات المجهولة.
مثالنا: العالم حادث. نذهب إلى المعلومات التي لدينا في علم الكلام، وهو العلم الملائم لمعرفة الحكم، أو الدليل التصديقي.
المرحلة الرابعة: الحركة الدائرة
حيث نبحث (ندور) في المعلومات التي في الذهن لتأليف ما يناسب المشكل ويصلح لحله.
مثالنا التصوري: ما هو الإنسان؟ إن حددنا نوع المشكل وأنه من الأمور المنطقية، وذهبنا إلى المعلومات التصورية، ودرنا (بحثنا) بين هذه المعلومات التي نمتلكها –مثل تصورنا لمعنى الحيوانية والناطقية– حتى نصل إلى حل ذلك المجهول التصوري ما هو الإنسان؟ إلى القول، أو تعريف ماهية أو حقيقة الإنسان بأنه: “حيوان ناطق”.
مثالنا التصديقي: العالم حادث. ندور (نبحث) في معلوماتنا فنجد أن: العالم متغير، وكل متغير حسب ما تفيدنا معلوماتنا التي في الذهن أنه حادث.
المرحلة الخامسة: الحركة الراجعة
حيث كُشف لنا الآن هذا المجهول، فننتقل إلى المرحلة الخامسة والأخيرة، وتُسمى بالحركة الراجعة، أي مرحلة الرجوع إلى السائل لإخباره بكشف المجهول.
مثالنا التصوري: الإنسان حيوان ناطق (يسمونه التعريف أو المعرِّف، بكسر الراء).
مثالنا التصديقي: العالم متغير – كل متغير حادث – إذن العالم حادث (ويسمونه الحجة أو الدليل).
وهذه الأدوارُ الثلاثة الأخيرة أو الحركات الثلاث (الذاهبة والدائرة والراجعة) هي الفكر أو النظر على الحقيقة، أما المرحلة الأولى والثانية فهي مقدماته.
قوة الحَدْس: حرق المراحل!
بعض الناس –مثل عباقرة الفلاسفة– حينما يواجهون المجهولَ ينتقلون مباشرة من المرحلة الأولى إلى الخامسة، دون حاجة إلى توسيط من المرحلة الثانية والثالثة والرابعة، أي إنه يحرق المراحلَ ليصلَ إلى الحل مباشرة، وبغير واسطة. وهذا ما يعرف بالحَدْس العقلي. وهو قوة استثنائية لبعض الناس، تمكنهم من الانتقال الدفعي، لا التدريجي: من المشكل إلى الحل مباشرة. لذلك كانت الحدسيات من البديهيات (راجع دردشتنا: العقل واليقين- الجزء الرابع).
اقرأ أيضاً:
أوقات الأزمات وتجلي التفكير العلمي
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
*****************
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا