قضايا وجودية - مقالاتمقالات

العقل ومدارس الفلسفة الإسلامية .. الجزء الثاني والعشرون

العبادات والأخلاق في الوجود

تحدثنا –صديقي القارئ صديقتي القارئة– في الدردشات السابقة عن وجود المعاد: البعث الجسماني والبعث الروحاني. ولنختتم –في هذه الدردشة– مقاربتَنا التأويليةَ لفلسفة الوجود السينوية: العبادات والأخلاق في الوجود.

خامسًا: العبادات والأخلاق في الوجود

يحدد ابن سينا منفعة العلم الإلهي قائلًا: “تحصيل كمال النفس الإنسانية بالفعل مهيئة إياها للسعادة الأخروية”، وهذه السعادة تتم بتزكية النفس، بالعبادات والأخلاق الإلهية.

أ. الدعوات المستجابة

يوضح ابن سينا أهمية عبادة الدعاء فيقول: “الأول الحق يعلم جميع ذلك على الوجه الذي قلنا: إنه يليق به ومن عنده يبتدئ كون ما يكون، ولكن بالتوسط، وعلى ذلك علمه. فبسبب هذه الأمور: ما ينتفع بالدعوات والقرابين وخصوصًا في أمر الاستسقاء وفي أمور أخرى”.

ب. العبادات ومنفعتها في الدنيا والآخرة

كان ابن سينا يستلهم تعاليمَ الإسلام وروحه في آثاره الفلسفية ومنها كتاب الشفاء، وكان ابن سينا كلما استغلقت عليه مسألة فلسفية أو علمية يذهب إلى المسجد ليصلي، فإذا وصل إلى حل يرضيه شكر الله ووزع الصدقات على الفقراء، وكان يؤمن بأن الخير في هذه الفرائض الدينية يوجد من جراء وجود تعاطف بين نفس الإنسان والله والأنفس السماوية، في مذهبه، وهو تعاطف يقوى بأفعال العبادات المفروضة كما يقول سيد حسين نصر.

ج. العبادات مدخلًا إلى التذكير المستمر بالمعاد

العبادات والأخلاق

اضغط على الاعلان لو أعجبك

إن القاعدة التي يتبناها ابن سينا: “استمرار الناس على معرفتهم بالصانع وبالمعاد، وحسم سبب وقوع النسيان فيه مع انقراض القرن الذي يلي النبي صلى الله عليه وسلم، فيجب أن يكون على الناس أفعال وأعمال يسن تكرارها عليهم في مدد متقاربة”، “ويجب أن تكون هذه الأفعال مقرونة بما يذكر بالله والمعاد”. التذكير لا يكون إلا بألفاظ تقال، أو نيات تُنوى وإن هذه الأفعال تقرب إلى الله تعالى، ويستوجب بها الجزاء الكريم، وهذه الأفعال هي العبادات المفروضة على الناس، مثل الصلاة والصوم والحج، إلخ. ويخص ابن سينا الصلاة بقوله: “يجب أن يكون أشرف هذه العبادات من وجه هو ما يفرض متوليه أنه مخاطب لله تعالى ومناجٍ إياه وصائر إليه وماثل بين يديه، وهذا هو الصلاة”.

يبرهن ابن سينا على أهمية العبادات فيقول: “قال القائل الحق: “إن الحسنات يذهبن السيئات” فإن دام هذا الفعل –يقصد العبادات– من الإنسان استفاد ملكة التفاتٍ إلى الحق وإعراض عن الباطل، وصار شديد الاستعداد للتخلص إلى السعادة بعد المفارقة البدنية (الموت)”. “فالنبي فرض عليه من عند الله أن يفرض عباداته، وتكون الفائدة في العبادات للعابدين فيما يبقي به فيهم السُنة والشريعة التي هي أسباب وجودهم، وفيما يقربهم عند المعاد من الله زلفى بزكائهم (تطهيرهم)”.

د. العبادات للعامة والخاصة معًا

على عكس ما يقول المتشبهةُ بالفلاسفة من أن العبادات للعامة من الناس، وليست للخاصة من الناس وليست للفلاسفة، يقول ابن سينا: “فهذه الأفعال –العبادات– ينتفع بها العامةُ من رسوخ ذكر الله تعالى والمعاد في أنفسهم، فيدوم لهم التثبت بالسنن والشرائع بسبب ذلك، فإن لم يكن لهم مثل هذه المذكرات تناسوا جميع ذلك مع انقراض قرن أو قرنين، وينفعهم أيضًا في المعاد منفعةً عظيمةً فيما تُنزه بهم أنفسهم. وأما الخاصة فأكثر منفعة هذه الأشياء إياهم في المعاد، فالسعادة في الآخرة –كما يقرر ابن سينا– مكتسبة بتنزيه النفس، وتنزيه النفس يبعدها من اكتساب الهيئات البدنية المضادة لأسباب السعادة، وهذ التنزيه يحدث بأخلاق (العبادات) وملكات (الحكمة). والأخلاق والملكات تكتسب بأفعال (صلاة وصوم وحج وزكاة إلخ) من شأنها أن تصرف النفس عن البدن والحس وتديم تذكيرها للمعدن (الأصل) الذي لها”.

هـ. الأخلاق المدنية والفردية

العبادات والأخلاق

كذلك أولى ابن سينا عناية خاصة للأخلاق سواء فيما يخص الأخلاق المدنية أم الفردية ونكتفي هنا بالإلماع إلى بعضها:

البطالة والقمار: “يجب أن تحرم البطالة، كذلك الصناعات التي تقع فيها انتقالاتُ الأملاك أو المنافع من غير مصالح تكون بإزائها، وذلك مثل القمار فإن المقامر يأخذ من غير أن يعطي منفعة البتة، بل يجب أن يكون الآخذ آخذًا من صناعة يعطي بها فائدةً تكون عوضًا”.

الربا: “وتحرم أيضًا الحرف التي تغني الناس من تعلم الصناعات الداخلة في الشراكة، مثل المراباة، فإنها طلب زيادة كسب من غير حرفة تحصله، وإن كانت بإزاء منفعة”.

الزنا واللواط ووجوب الزواج: “وتحرم أيضًا الأفعالُ التي إن وقع فيها ترخيصٌ أدى إلى ضد ما عليه بناء أمر المدينة، مثل الزنا واللواط، الذي يدعو إلى الاستغناء عن أفضل أركان المدينة وهو التزوج المؤدي إلى التناسل وأن يدعو المشرع إليه ويحرض عليه، فإن به بقاء الأنواع التي بقاؤها دليل على وجود الله تعالى”.

خلاصة تأويلية عامة لفلسفة الوجود السينوية

تناولنا في رحلتنا مع ابن سينا فلسفته في الوجود: الله، والعالم، والإنسان، والنبوة، والمعاد والعبادات والأخلاق، ورأينا كيف كانت هذه الفلسفة تضع لها هدفًا رئيسًا تتجه إليه بكل تفصيلاتها: الله تعالى: واجب الوجود وغاية كل موجود. ومع ذلك لمْ يَسْلَمْ ابن سينا من التكفير! ونتعجب –مثلما تعجب ابن سينا نفسه– من هذه التهمة التي رماها به معاصروه، لنسمعه، بل لنردد معه:

كُفْرُ مِثُلي لَيْسَ سَهْلًا أنْ يُرجَّمْ

أيْن مِنْ مُحْكَمِ إيماني أحْكَمْ

أوَحيدُ الدَّهْرِ مِثْلي كافرٌ؟!

فَإذَن لَمْ يَبْقَ في العَالمِ مُسْلِمْ!

صحيح أن ابن سينا لم يصلْ إلى القول الفصل في أكثر المشاكل الفلسفية التي عالجها، وكان –ككل الفلاسفة– باحثًا عن الحقيقة مقاربًا لها مجتهدًا في الوصول إليها، فإن أصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجرٌ واحد. ومن ابن سينا يمكننا –نحن المعاصرين– أن نستكمل ما أصاب فيه وأن نعذره فيما أخطأ فيه، وأن نحاول أن نستكملَ البحثَ عن حلول للمشكلات الفلسفية وفقًا لما وصل إليه العلمُ المعاصرُ. إن ابن سينا قد اجتهد في ظل علوم عصره –وقد انهارت الآن بالكلية أو كادتْ– إن نظرية التطور والنسبية وميكانيكا الكم، وغيرها من العلوم المعاصرة، يمكن أن تساعدنا في إيجاد حلول جديدة للمشاكل الفلسفية القديمة.

يتغير حالُ العلم كل يوم لكن تبقى الإشكالاتُ الفلسفيةُ تتحدى عقولَ الفلاسفة، وتلك طبيعة الفلسفة وجوهرها الخالد الذي لا ينقص من قيمته أخطاءُ العلم القديم، ولا أخطاءُ العلم الحديث، ولا أخطاء العلم الآتي يمكنه أن ينقص من قيمة الفلسفة والفلاسفة، ولن ينتهي موضوعُ الفلسفة الذي هو الوجود ما دامَ الوجودُ موجودًا وما دامَ واجبُ الوجود تعالى يمدُ الإنسانَ بهبته الأولى: العقل وموضوعه الأول: الوجود.

في الدردشة القادمة –بإذن الله– نبدأ رحلتنا مع أول فلاسفة المغرب العربي، الفيلسوف الأندلسي: ابن باجة وكتابه “تدبير المتوحد”.

اقرأ أيضاً: 

الجزء الأول ، الجزء الثاني، الجزء الثالث، الجزء الرابع، الجزء الخامس

الجزء السادس، الجزء السابع، الجزء الثامن، الجزء التاسع، الجزء العاشر

الجزء الحادي عشر، الجزء الثاني عشر، الجزء الثالث عشر

الجزء الرابع عشر ، الجزء الخامس عشر، الجزء السادس عشر

الجزء السابع عشر، الجزء الثامن عشر، الجزء التاسع عشر

الجزء العشرون، الجزء الواحد والعشرون

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ.د شرف الدين عبد الحميد

أستاذ الفلسفة اليونانية بكلية الآداب جامعة سوهاج