إصداراتمقالات

الضعف الأمريكي والفوضى الخلاقة

الضعف الأمريكي والفوضى الخلاقة

عندما تريد سبغ أغوار عالم متغير أو تفسير ظواهره, فيجب أن تبدأ وتنطلق من اليقينيات أو الثوابت, مكونا القواعد والمفاهيم الكلية التي تتعلق بالموضوع ثم تنطلق منها لتفسير الأحداث والمواقف الجزئية. هذا النمط في التفكير هو الأنسب عند الخوض في عالم السياسة المتغير والمتحول والذي يشهد بصورة مستمرة أحداثا تظهر لغير المتعمقين أنها متناقضة وغير مفهومة.

هذه محاولة لعرض بعض الحقائق العامة لعلها تساعد في فهم واقعنا السياسي في العالم العربي والإسلامي:

1. الاهتمام الأمريكي الكبير بالعالم العربي والإسلامي:

اضغط على الاعلان لو أعجبك

– يشهد التاريخ القديم والحديث على اهتمام القوى العظمى بالمنطقة وتمثل ذلك بالاحتلال العسكري لدولها والتدخل السياسي المستمر في شؤونها الداخلية والمحاولات الدؤوبة للسيطرة على اقتصاداتها ومواردها.

– القواعد الأمريكية و الغربية العسكرية المنتشرة في المنطقة لا سيما في مصر (قوات حفظ السلام بناء على اتفاقية كامب ديفيد) وتركيا (عضو حلف الناتو) والخليج العربي (قطر والبحرين والكويت تستضيف قيادة المنطقة المركزية الأمريكية وقيادة الأسطول الخامس الأمريكي والعديد من القواعد والقوات الأمريكية الأخرى خصوصا بعد حرب الخليج الأولى, كما تستضيف الإمارات قاعدة فرنسية).

– زرع الكيان الصهيوني كقاعدة عسكرية دائمة لتنفيذ السياسات الغربية في المنطقة.

– من أسباب اهتمام أمريكا بالمنطقة:

* التحكم بمصادر الطاقة واستغلال الموارد الطبيعية والبشرية.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

* السيطرة على بلدانه العربية والإسلامية فكريا وسياسيا واقتصاديا لخدمة مصالحها وضمان تبعيتها لها.

* الحفاظ على تفوق ربيبتها إسرائيل على سائر دول المنطقة.

* تأمين طرق التجارة العالمية.

* مقاومة نهوض أي فكر ديني أو قومي يمكن أن يمثل بديلا تتطلع إليه شعوب العالم لتستعيد به إنسانيتها التي فقدتها بسبب الانغماس في الفكر الغربي المادي النفعي.

2. الضعف الأمريكي:

اضغط على الاعلان لو أعجبك

من دلائل تزايد الضعف الأمريكي:

– الوضع المالي لأمريكا وحلفائها يتدهور من سيء إلى أسوأ, فعجز الميزانية يتفاقم والدين الأمريكي قفز فوق 17 تريليون دولار لأول مرة في التاريخ.

– فقدت أمريكا كثير من قواها الناعمة والخشنة, ليس فقط بسبب أزمتها المادية ولكن أيضا بسبب إخفاقاتها وهزائمها المتتالية حول العالم:

* بعد حرب طويلة على العراق استنزفت أموال وشباب المحتل الأمريكي, خرجت “أقوى” دولة في العالم بخفي حنين و بدون توقيع اتفاقات أمنية تضمن السيطرة على هذا البلد.

* سيناريو هذا الانسحاب المذل مرشح للتكرار مرة أخرى في أفغانستان, فلقد تعهدت أمريكا بالانسحاب في نهاية عام 2014 وحتى الآن باءت كل محاولاتها لتوقيع اتفاقيات أمنية مع أفغانستان بالفشل.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

* أيضا لا ننسى هزيمة أمريكا بتراجعها عن ضرب سوريا خوفا من تهديدات الأسطول الروسي في مياة البحر المتوسط الدافئة.

* الاكتفاء بالعقوبات الاقتصادية الرمزية ضد روسيا بعد ضمها الفعلي لشبه جزيرة القرم في أوكرانيا.

* كذلك مراقبتها السلبية لتوسع نفوذ التنين الصيني في المحيط الهادي الذي ضم مؤخرا عدة مناطق متنازع عليها مع جيرانه الآسيويين, رغم خطورة هذا الفعل الذي قد يؤسس للمزيد من التوسع الصيني ويهدد سيطرة أمريكا على طرق التجارة الدولية.

* تخفيض النفقات العسكرية (بسبب الأزمة المالية) أدى إلى تخفيض عديد القوات الأمريكية في قواعدها في الخارج وخصوصا في أوروبا وإغلاق قاعدتها في قرغيزستان (آسيا الوسطى).

* أصبحنا نرى الآن في مجلس الأمن فيتو روسي وفيتو صيني يتصدى لمحاولات شرعنة البلطجة الأمريكية.

* جلوس أمريكا على طاولة المفاوضات مع دول مثل إيران بل وتوصلها لاتفاقات تجبرها على إرجاع أموال واعتراف بحقوق نووية بعد أن كانت تعتبرها إلى عهد قريب قائدة محور الشر في العالم.

* تخلي أمريكا عن الإدارة المباشرة للأزمات في المنطقة والاعتماد المتزايد على حلفائها للقيام بهذه المهمة (مثال السعودية وقطر وتركيا في الملف السوري).

* تزايد المحاولات الناجحة حول العالم للخروج من التبعية السياسية والاقتصادية لأمريكا وحلفائها (وصول كثير من الرؤساء المعادين لأمريكا ذوي الفكر الاشتراكي في دول أمريكا الجنوبية, قيام تجمعات ومنظمات اقتصادية مناهضة للسيطرة الغربية مثل “منظمة شنغهاي” و”تجمع دول البريكس” الذي أعلن مؤخرا عن رغبته في منافسة البنك الدولي – الذي تسيطر عليه أمريكا وحلفائها – في تمويل مشروعات التنمية حول العالم, تزايد اعتماد الدول على العملات الوطنية في التبادل التجاري فيما بينها للهروب من سيطرة الدولار الأمريكي).

* ضعف حلفاء أمريكا سواء على المستوى المالي أو العسكري, و من أبرز الأمثلة على ذلك الهزائم المتتالية للكيان الصهيوني بدءا من الانسحاب المذل من جنوب لبنان عام 2000, إلى الفشل العسكري ضد منظمات عسكرية غير نظامية (مثل حزب الله عام 2006 و الفصائل الفلسطينية المقاومة مثل حماس و الجهاد والجبهة الشعبية في غزة), بناء جدار الفصل العنصري حول الضفة الغربية والذي أنهى عمليا فكرة إسرائيل الكبرى, تحقيق توازن الرعب بين إسرائيل والفصائل المقاومة في غزة ولبنان بسبب افتقاد إسرائيل لحلول جذرية لتكتيكات الفصائل التي توظف الأسلحة الحديثة في حرب العصابات(مثل الاستخدام المكثف لصواريخ أرض أرض التي طالت تل أبيب وصواريخ الكورنيت الروسية المضادة للدبابات والدروع والتي منعت الاجتياح البري لغزة).

– بسبب انخراط الشعب الأمريكي في الثقافة المادية النفعية التي ترتكز على مادية السعادة ومركزية الإنسان, انتشرت الذاتية واهتمام الفرد الأمريكي بمنافعه الشخصية على حساب المصلحة الوطنية, مما أدى إلى تدهور العقيدة القتالية للجيش الأمريكي وافتقاده إلى كثير من القيم كالعدل والحرية وحرمة النفس البشرية والشجاعة والتفاني والتضحية في سبيل الوطن, مما دفعه إلى استبدالجنوده النفعيين المدللين بالحلول التكنولوجية والأسلحة الفتاكة, ولكن هذه الحلول لم تستطع هزيمة أعداء أمريكا لتمتعهم غالبا بالعقيدة والتفاني والقدرة على ابتكار الوسائل لإبطال التفوق التكنولوجي (مثل حفر الأنفاق لمواجهة تهديد سلاح الطيران).

3. الخيارات الأمريكية:

– هناك 3 أنواع من الأنظمة الحاكمة قد تواجهها أمريكا في المنطقة:

* نظام قوي مسيطر معادي أو غير خاضع لأمريكا, وبصرف النظر عن سبب هذا العداء – إما رغبة في إقامة نظام عادل غير تابع للآخرين أو رفضا لأطماع أمريكا التي تتعارض مع أطماع هذا النظام – فإن هذا النوع من الأنظمة هو حتما مرفوض أمريكيا ويجب العمل على إسقاطه.

* نظام قوي مسيطر خاضع لأمريكا, وهو الخيار المفضل لها, ولكن الشرط اللازم لتوفر هذا النظام هو توفر القدرة المالية والسياسية والعسكرية لدى أمريكا للسيطرة عليه وعلى أمثاله من الأنظمة الخاضعة.

* اللانظام أو الدولة الفاشلة أو الدولة المتناحرة, وهو الخيار الثاني لأمريكا إن فشلت في السيطرة والتحكم في هذا البلد.

– إذن عند فشل أمريكا في السيطرة على بلد ما عبر نظام خاضع يحفظ لها مصالحها, فمن غير المستغرب أن تعمل أمريكا على إثارة النزاعات الطائفية والمذهبية والقومية بين فرقاء هذا البلد حتى و إن لم يكونوا تابعين لها للحيلولة دون نهوضه وتقدمه. وهي عندئذ تراعي عدم تفوق أحد الأطراف على خصومه تفوقا حاسما لمنع إنهاء النزاع لصالحه (إلا في حالة تعهد هذا الفائز قولا وفعلا بالحفاظ على المصالح الأمريكية).

– بسبب حالة الضعف الأمريكية التي أوضحتها سابقا, و بسبب الثورات التي شهدتها المنطقة والتي زلزلت عروش كثير من الأنظمة التابعة لأمريكا, و هو ما أظهر احتفاظ هذه الشعوب بمقومات النهوض والثورة على الظلم, نرى أن السياسة الأمريكية المتبعة حيال بعض دول المنطقة لم تعد السياسة الراغبة في إنهاء النزاعات وبناء أنظمة تابعة وخاضعة لها, بل تحولت لسياسة الفوضى الخلاقة التي “ترمي كرسي في الكلوب” كما يقول المثل المصري لتحويل البلدان الخارجة عن السيطرة إلى بلدان فاشلة تنغمس في النزاعات السياسية والعسكرية إلى ما لانهاية, أو لتقسيمها إلى دويلات عرقية وطائفية تستهلك طاقاتها في حروب بينية لعشرات السنين القادمة.

– فوائد إثارة النزاعات السياسية والعسكرية في الدول غير الخاضعة:

* منع قيام أنظمة معادية لأمريكا في هذه الدول عبر استنزاف الطاقات البشرية والطبيعية في نزاعات لا نهاية لها. خصوصا أن خيار الأنظمة العميلة قد ثبت فشله بعد قيام الثورات العربية التي أظهرت احتفاظ هذه الشعوب بمقومات رفض الخضوع والخنوع.

* زيادة الشروخ والعداوات بين مقومات وطوائف البلد الواحد مما يفتح الباب واسعالتقسيم هذا البلد جغرافيا إلى دويلات صغيرة مفتتة تستنجد بالدول الكبرى لحمايتها (كما حدث في يوغوسلافيا وأندونيسيا والسودان وكما هو مرشح للحدوث – لا سمح الله – في اليمن وليبيا والعراق). إثارة النزاعات وإن كانت تعيق الإستيلاء على ثروات هذه البلدان في الوقت الراهن, فإن جائزة تفتيتها للأبد وتعميق الصراعات بينها يتيح الإستيلاء على هذه الثروات لاحقا بأثمان أزهد وأبخس.

* حفظ أمن إسرائيل, حيث أن هذه النزاعات تضمن بقاء هذه الدول أضعف من إسرائيل (التي تعاني نفس أعراض الضعف الأمريكي ).

* صرف الأنظار عن قضايا الأمة المحقة مثل القضية الفلسطينية وتحرير المقدسات والوحدة العربية والإسلامية. بل إن هناك محاولات للزج باسم فلسطين كطرف في الصراعات أملا في استبدال ما تكنه الشعوب العربية والإسلامية من مشاعر تقديس وحب للقضية الفلسطينية بمشاعر الكره والعداء أو على الأقل اللامبالاة.

  • النزاعات العسكرية والحروب تعني مزيدا من فرص تصدير السلاح الأمريكي.

* الاستيلاء على الموارد الطبيعية بأبخس الأسعار, حيث تضطر الأطراف المتصارعة الضعيفة إلى بيع الموارد الطبيعية التي تقع تحت سيطرتها بأبخس الأسعار في إطار تجارة غير شرعية (كبيع داعش والنصرة للنفط السوري المنتج من محافظة دير الزور و بيع بعض فصائل الثوار في ليبيا للنفط المنتج من الحقول الشرقية وبيع إقليم كردستان للنفط العراقي عبر تركيا).

* إثبات عدم صوابية الثورة على الأنظمة التابعة لأمريكا و طرح الأمن والاستقرار في مقابل الحرية و الحقوق المشروعة (مثل دول الربيع العربي).

* إثبات عدم صوابية رفض الهيمنة الأمريكية أو مقاومة الاحتلال (كما الحالة العراقية حيث طرحت بعض الأطراف العراقية أن انتشار الإرهاب سببه الانسحاب الأمريكي).

* إثارة النزاعات الطائفية والعرقية لا يقتصر تأثيره على بلد النزاع فقط بل يؤثر سلبا على استقرار بلدان المنطقة وعلى العلاقات الثنائية فيما بينها. وهو ما يؤدي إلى دخول أغلب هذه الدول في سباق للتسلح (يفيد المصانع الأمريكية) أو لاستعانة هذه الدول بأمريكا لمواجهة التحديات الأمنية كالحرب على الإرهاب.

* تجريف البلدان العربية والإسلامية من النخب العاقلة والمخلصة مثل العلماء والمفكرين والكفاءات العلمية إما بدفعهم للهروب والهجرة أو التصفية الجسدية. وهو ما يؤدي إلى خلو هذه البلدان إلا من النخب الطائشة والانتهازية التي يسهل السيطرة عليها لدفعها لقيادة القواعد الشعبية إلى مزيد من الانغماس في العنف والتفتت والركض وراء العواطف والمزايدات.

* خلق أجيال مشوهه فكريا وعلميا, فوسط مشاعر الكراهية والتخوين والعنف يصبح من المستحيل وجود أجواء فكرية ترتقي بشباب المجتمع أو إتمام عملية تعليمية سليمة للأجيال الصاعدة.

* تشويه المبادئ والقيم الإنسانية والوطنية المشتركة كحب الوطن وحرمة النفس, فاستغلال الشعارات الدينية والوطنية لتحقيق أهداف غير مشروعة يفرغها من محتواها, كما أن تكرار سماع أخبار سقوط القتلى والجرحى يؤدي إلى الاستهانة بالقتل وسفك الدماء.

* دفع الأقليات المسيحية واليهودية للهجرة من المشرق للدول الغربية ولإسرائيل مما يعيد التوازن الديموغرافي لهذه الدول التي يغلب عليها هجرة الشباب المسلم كما أنه يحرم دول المشرق من التنوع الديني والثقافي الذي هو مصدر قوة لا ضعف (فمثلا مع تصاعد العنف في العراق وسوريا ضد الأقلية المسيحية, تزايدت معدلات هجرة المسيحيين للدول الغربية, كما أن إنزلاق أوكرانيا في الاضطرابات الأهلية دفع الكيان الصهيوني لشن حملات دعائية تدعو الأقلية اليهودية الأوكرانية للهجرة إلى إسرائيل).

لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.

ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.

أحمد عثمان

باحث ومحاضر بفريق مشروعنا بالعقل نبدأ

مقالات ذات صلة