مقالات

واقعة بطولية لكنها غير مشهورة

رجل يُقاتل لأجل حياته، يُمكنه فعل ما لا يُمكنه هو نفسه تخيُّلهُ أبدًا، أنتَ تُصبح ما تُؤمن بهِ.

في أيام الحرب العالمية الثانية، كان في واقعة بطولية مش مشهورة، بولندا كانت دولة محورية في الحرب، الألمان خططوا للسيطرة عليها، لأنها بوابة اقتحام روسيا زي أوكرانيا مثلًا، كذلك روسيا كانت عارفة إن الألمان مش هيقدروا يفكروا في غزو روسيا إلا عن طريق غزو بولندا الأول،

وبالفعل الدولتين الغازيتين اجتاحوا بولندا، واحدة من الغرب والتانية من الشرق، وأصبحت بولندا مُحاصرة بقوات روسية من الشرق، وألمانية من الغرب، وفي النُص أصبح الشعب البولندي المطحون.

تحول بولندا لثكنة عسكرية

أمست بولندا أشبه بثكنة عسكرية، مئات من عمليات القبض وآلاف من عمليات القتل والتشريد، الوضع كان مُزري، فاجتمع ضباط سلاح الفرسان –المُشاة يعني– البولندي سويًا وقرروا إنشاء وحدة وطنية عسكرية مُقاومة.

من ضمن الضباط دول ضابط اسمه “بيلكي”، بيلكي مكنش أعلى الضُباط دول رتبة ولا أقدمية، ولكنه كان الأكثر نُبلا زي ما هيبان من اللي هحكيهولك قُدام، قرر أنه يُشرف على وحدة من وحدات المُقاومة، بس ده مكنش مُؤثر أوي زي ما هتفهم،

اضغط على الاعلان لو أعجبك

جحافل الروس والألمان كان صعب مُقاومتهم جدًا، بس في بداية الموضوع الألمان قدروا يقبضوا على أسرة بيلكي، زوجته وأولاده وقتلوهم رميا بالرصاص. عشان تتحوّل الدُنيا قُدامه لمُحيط واسع أسود غرق فيه واستسقى من سوداويته. بيلكي اكتئب بشدة بس موقفش، ولك أن تتخيل يا رفيق حالته كانت إزاي.

بطش السلطات الألمانية والروسية بالأسرى

كل يوم يمُر في الشوارع طوابيـر فيها ناس ماشية مُكبلة أسرى، واللي يتباطأ فيهم بيتم قتله رميًا بالرصاص فورًا، مئات الآلاف مسجونين في سجون مُتفرقة في بولندا نفسها، ويوميًا بيزيدوا دون أي تُهم.

السُلطات الألمانية والروسية كانوا في مُنتهى البطش، في الأول على السمع كده الناس كانت فاكرة إن الروس أرحم شوية من الألمان، بحُكم إنهم أولاد نفس المُحيط الجُغرافي وجيران يعني، بس اتضح إن القوتين مُتساويتين في البطش والأذى، الواحد مكنش عارف يلاقيها منين ولا منين.

المُهم إن بيلكي كان مش مستحمل حالة الركود اللي وقفت فيها المُقاومة، وكمان سمع عن سجن جديد بيبنيه الألمان في آخر الجزء الشرقي من بولندا، السجن ده اسمه مُعسكر أوشفيتز، وده بعد امتلاء السجون البولندية اللي تم اقتحامها والسيطرة عليها من قبل القوات العسكرية، بقى لازم يتم بناء سجن أكبر.

نجاح مخطط الضابط بيلكي في الوصول إلى أوشفيتز

الضابط بيلكيبيلكي المُحطم في سعيه الدؤوب للتحرر ومُساعدة الأسر البولندية إن ميحصلش معاها زي اللي حصل له، خاض معارك مع القوات العسكرية الألمانية المُنظمة، وقدر أنه يدمر خطوط ونقاط تفتيش ألمانية، وده خلاه وسط زملاؤه نجم كبير.

المُهم بيلكي اقترح أثناء اجتماع مع المُقاومة أنه يسهّل من عملية القبض عليه للألمان وأنه يتحوّل لمُعسكر أوشفيتز ده. في الأول رفض زملاؤه بالمقاومة طلبه ده ولكن سُرعان ما وافقوا مع إصراره. بيقول عن نفسه “إني أجد نفسي مُستمتعًا للغاية حينما أقوم ببعض الأمور التي يُصنفها الآخرون خطيرة”.

الخطة كانت كالتالي، بيلكي هيدخل المُعسكر عشان يقود السجناء لانقلاب حاد ضد السُلطات والعسكر بـمُساعدة التنظيم من برة، وبالفعل تم القبض على بيلكي أثناء ما كان بيحاول “يسرق سيارة ألمانية”، قال يعني مكنش قصده يتقبض عليـه، ولكنهم لم يعلموا أن الأمر كان مُخطط له.

بيلكي اتقبـض عليه ووصل لمُعسكر أوشفيتز وهناك شاف اللي مكنش يتخيـّل أنه حقيقي. شاف آلاف مساجين دون ذنب، أطفال وشيوخ ونساء ملهومش حيلـة، أمهات بتبكي على فُراق أطفالها يا إما ماتوا يا إما تاهـوا، شيوخ بتبكي على أولادها اللي اتقتلوا قدامهم دون سبب داخل أسوار السجن. كانت الأوامر إن لما يصدر أمر للجميع بالوقوف آخر واحد يقف يتم قتله فورًا، وعليه مع كل أمر للوقوف روح بتطلع.

سواد لا ينتهي، موت لا يتوقف..

اقرأ أيضاً:

أنواع الحروب وعقلية المستعمر

البطل الحقيقي يضئ في وسط الظلام

قل شيئًا … تجَمَّل بالحقيقة!

بيلكي يقود أكبر عملية تمرد في التاريخ

بيلكي كان مُختلف عن الكل، كان طول الوقت بيتكلم بحماس وباين عليه أنه مش مدني، قدراته البدنية أعلى، وطلباته أقل، وخطاباته في زملائه كانت شديدة الحماسية، رغم إن تحطيمه النفسي كان بيزيد يوم ورا يوم، وأثناء كل ده ابتكر طريقة يُخاطب بيها زملاؤه برة السجن، وكان بيُرسل خطابات يحكي فيها عن اللي بيشوفه،

ولك أن تتخيل إن مُسجل تحذير بيلكي عن الهولوكوست كان أول تحذير مكتوب في التاريخ، وخطاب ورا التاني يحكي فيه عن اللي بيشوفـه في السجن هناك دون رد.

كمان حكى عن التعذيب اللي بيتعرض له هو وكل زملاؤه عمّال على بطال دون سبب، كهرباء وأدوات تعذيب مُؤلمة، وأنه مستحمل مستني كلمة من المُقاومة الشعبية البولونية عشان يتحرك.

وتمُر الشهور وراء الشهور، وتعمل سنين ومفيش رد، بيلكي بعد سنتين حس إنه تم التخلي عنه وأنه بقى رسميًا سجين لدى الألمان دون شفاعـة، فكتب عن دخوله المُعكسر ده “لقد كان الأمر خطيرًا، تخطى الأمر في خطورته ما يُمكن للإنسان أن يدعوه خطيرًا جدًا، كان هذا أشد”.

فقرر يقـود واحد من أكبر عمليات التمـرُد في التاريخ، وقاد المساجين كلهم ضد العسكر وقامت فوضى ضخمة في المُعسكر استمرت لساعات قبل أن يُسيطر عليها الألمان بالقوة.

من التعذيب الشديد إلى النجاح في الهروب

ونظير اللي حصل، اتعرض بيلكي للتعذيب الشديد، واستمر فيه لمـدة أسبوعين لدرجة إن ملامح وشّـه اتغيّرت، وفقد نصف وزنه من التنكيل والتعذيب، وفعلاً تم الإبقاء على بيلكي في سجن مُشدد انفرادي لحد ما تم إطلاق سراحـه في واحدة من القرارات الغريبة، كان المقصود منها مُراقبته والقبض على كل أعضاء التنظيم بتاعـه.

بيلكي اللي التنظيم بتاعه اتخلى عنه، فطن لخطة الألمان، وضللّهم لحد ما هرب منهم وأصبح حرًا طليقا، ومكنش إلا أيام.. والألمان اتسحلوا في غزو روسيا والانهيار والانسحاب والتراجُع، واللي كان من مُقدمات الهزيمة الألمانية وانقلبت الآية وبدأ الألمان في التقهقهر من بولندا.

بس “بيلكي” بدأ في كتابة يومياته واللي فيها قال جُملته الشهيرة: “رجل يُقاتل لأجل حياته، يُمكنه فعل ما لا يُمكنه هو نفسه تخيُّلهُ أبدًا”.

الحكم بالإعدام على الضابط بيلكي

الضابط بيلكيوتـمُر الأيام وتنال بولندا حُريتها، والمفروض يحصل إيه مع بيلكي؟ تكريم؟ لأ! بعد تولي الشُعبة الوطنية السُلطة، وبأوامر من “ستالين” الزعيم الرُوسي، حاكمت بيلكي بتُهمة الخيانة العظمى، بحجة التواصُل مع جهات أجنبية والتشجيع على الإمبريالية،

وتم إعدامه برصاصة في خلف الرأس، قبيل إعدامه وقف قُدام الظُباط وقال “لقد عشت حياتي كُلها، كي أشعُر في ساعة موتي بالسعادة بدلا عن الخوف، وقد كان، فأنا سعيد”.

بس ليه تم إعدامه؟!

لأن النظام الصاعد وقتها في “بولندا” واللي كان مُوالي للروس المُنتصرين في الحرب، شاف إن “بيلكي” خاين وكان بيعمل على خدمة النظام البائد اللي كان بيحكُم “بولندا” قبل الغزو.

يعني الحكومة البولندية الجديدة اللي كانت أساسًا خاينة للشعب، شافت إن بيلكي الوفي للشعب والحكومة الحُرة يبقى خاين، زي ما أحيانًا بتشوف قديس وسط مُجتمع فاجر، فتتهمه بالعُهر.

بيلكي أيقونة الشعب البولندي على مر العصور

بس بعد سنين بيسقُط الاتحاد السوفييتي، وبيتم منح “بولندا” حرية حقيقية، ووقتها بيتم تكريم “بيلكي” واعتباره بطل قومي، ولحد النهاردة يُعتبر واحد إن مكنش بطل بولندا الأول في الحرب العالمية التانية.

وفعلًا “بيلكي” صدق وآمن بحُريته وحُرية وطنه ودفع تمن ده حياته وحياة أسرته، لكنه أصبح أيقونة للشعب البُولندي على مر العصُور، وكلامه لحد النهاردة بيتم تدريسه في المدارس في أنحاء أوروبا.

بس كده.

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

*****************

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ. مصطفى محمود حسن

باحث وكاتب روائي