الشرائع .. والقاعدة الذهبية
منذ أمد بعيد انشغل عقلي –ومنذ أن كنت في الصف الثالث الإعدادي– بتساؤلٍ ضخم نتيجة لذلك الكم من البغي الذي كثيرا ما يسود العلاقة بين القوي والضعيف، ليس على مستوى الأفراد فقط، وإنما على مستوى الجماعات والمؤسسات، بل وعلى مستوى المجتمعات والأمم، ليس الآن فحسب وإنما منذ فجر التاريخ،
هذا التساؤل هو: ما الكيفية التي نتصدى بها لذلكم البغي الذي يسود العلاقات بين كثير من الناس والجماعات والمجتمعات والدول؟ أو بمعنى آخر: هل هناك قاعدة أخلاقية إذا ما التزم الجميع بها يمكن أن تضع لهذا البغي حدًا؟
وبعد حيرة فكرية وعناء كبير هداني ربي –في ذلك العمر– إلى أنّ ثمة مبدأً جامعًا إذا ما التزم به البشر في مسالكهم –في أي زمان أو مكان– سيقضي على كل هذا البغي قضاءً مبرمًا، وصغت –حينها– ذلكم المبدأ في جملة من كلمات سبع هي: “عامل الآخرين بما تتمنى أن يعاملوك به”.
بعد سنوات عدة اكتشفت أثناء تصفحي كتابًا –لا أتذكر الآن اسمه– أن هذا المبدأ يسمى “القاعدة الذهبية”، ثم اكتشفت بعدها أن كل الأديان والفلسفات والمذاهب الفكرية المعتبرة قد نادت به كمعيار أخلاقي رئيس للتعامل بين البشر جميعًا.
الصين القديمة ومصر القديمة
فقد نصت شريعة حمورابي –وهي من أقدم الشرائع المكتوبة في التاريخ البشري (1780 ق م)– على التعامل بالمثل “العين بالعين والسن بالسن”.
كما وجدت القاعدة الذهبية بين جميع المدارس الفلسفية الرئيسية في الصين القديمة: الطاوية، والكونفوشية. حيث يقول كونفشيوس: “لا تفرض على الآخرين ما لا يمكنك أن تختاره لنفسك”، ويقول أيضًا “اعتبر أن مكسب جارك هو كسبك الخاص، وخسارة جارك كما لو أنها خسارتك الخاصة”.
وقد سُئل زي قونغ تلميذ كونفشيوس: “هل هناك كلمة واحدة يمكن أن تكون بمثابة قاعدة لممارسة الحياة؟”، فأجاب قائلًا: “أليس المعاملة بالمثل هي الكلمة؟”.
وفي مصر القديمة نجد قصة “ماعت” التي تظهر في قصة الفلاح الفصيح، والتي يعود تاريخها إلى عصر الدولة الوسطى (2040-1650 ق م): “هذا هو الأمر الآن: عامل الآخر كما هو يعاملك”.
وعند الإغريق كانت القاعدة الذهبية “ما تكره أن يصنع لك لا تقم بصنعه”. ويقول بيتاكوس ( 640-568 ق م): “تجنّب القيامَ بأعمالٍ قد تلوم الآخرين على فعلها”. ويقول طاليس ( 624 546 ق م): “ما تكره أن يحصل لك، لا تقم أنت بفعله أيضًا”، أما سكستوس فيقول: “لا تفعل للآخرين ما سيثير غضبك إن فعله الآخرون بك”.
أما إيسوقراتس (436-338 ق م) فيقول: “ما تسعى إلى تجنبه لا تقم بفرضه على الآخرين”. وعند الرومان يقول الكاتب بابيلوس سيروس: “توقع من الآخرين ما فعلته بهم”.
الهند والزرادشتية والهندوسية
أما في الهند فإن غوتاما بوذا (563 – 483 ق م) جعل هذا ركنًا من الأركان الأساسية للأخلاق: “كما هو أنا هم كذلك، وكما هم أنا كذلك، يجب علي ألا أقتل ولا أسبب للآخرين القتل”، وفي سوتا نيباتا: “من يسعى إلى إسعاد نفسه ويضطهد ويستخدم العنف مع الآخرين الذين يرغبون أيضًا في تحقيق السعادة لأنفسهم، لن يحقق السعادة لنفسه في نهاية المطاف”.
وفي الهندوسية: “هذه خلاصة الصلاح الحقيقي: عامِل الآخرين بما تحبُّ أن تُعامَل، ولا تعامل جارك إلاّ بما تحبُّ أن يعاملَك به” –من كتاب المهابهاراتا.
وفي الزرادشتية: “إن الطبع الصالح فقط هو الذي لا يعامل الآخرين إلا بما هو في صالحهم.” –من كتاب داديستني دينيك (5:94). ولدى السيخية: “عامل الآخرين كما تحبُّ أن تعامَل”. وفي الطاويّة: “اعتبر كل ما يربحه جارك ربحًا لك، وكل ما يخسره جارك خسارة لك”. وفي تراث الجيان الروحي: “على الإنسان أن يفكّر في معاملة كافة المخلوقات كما يحب أن يعامَل.” –سوراكريتانجا (1:11:33).
التوراة والعهد الجديد
وفي التوراة في سفر اللاويين: “لا تنتقم ولا تحقد على أبناء شعبك بل تحب قريبك كنفسك.” أنا الرب [19:18]، وأيضًا: “كالوطني منكم يكون لكم الغريب النازل عندكم وتحبه كنفسك لأنكم كنتم غرباء في أرض مصر.” أنا الرب إلهكم [19:34]. وفي سفر طوبيا: “وكل من خدمك بشيء فأوفه أُجرَتَه لساعته، وأجرةُ أجيرك لا تبق عندك أبدًا.” [4:15]. وفي التلمود: “لا تصنع مع الآخرين ما تكرهه أنت، هذه هي الشريعة وما عدا ذلك ليس إلاّ تعليقًا عليها”.
وفي العهد الجديد: إنجيل متى: “فكل ما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا هكذا أنتم أيضًا بهم، لأن هذا هو الناموس والأنبياء.” [7:12]. وفي إنجيل لوقا: “وكما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا أنتم أيضًا بهم هكذا.” [6:31].
وأيضًا: “وإذا ناموسي قام يجربه قائلًا: يا معلم، ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية؟ <26> فقال له: ما هو مكتوب في الناموس. كيف تقرأ؟ <27> فأجاب وقال: تحبّ الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك، ومن كل قدرتك، ومن كل فكرك، وقريبَك مثل نفسك <28> فقال له: بالصواب أجبت. افعل هذا فتحيا”. وفي سفر أعمال الرسل ورسالة بولس الطرسوسي إلى أهل غلاطية [5:14]: “لأن كل الناموس في كلمة واحدة يكمل: تحب قريبك كنفسك.” أنا الرب.
ومع تقدم العمر وتفتّح أبواب المعرفة على مصراعيها أمام العقل بعد دخول المرحلة الجامعية بدأَت تؤرقُني –حينها– قضيةٌ أكبر، وهذه هي موضع المقالة التالية بمشيئة الله تعالى.
اقرأ أيضاً:
دور حضارات الشرق القديمة في بناء الفكر الأخلاقي
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
*****************
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا