علم نفس وأخلاق - مقالاتمقالات

الزهد في الثقافة الصينية

ما معنى الزهد ؟

يحتاج كل منا إلى وقت يختلي فيه بنفسه يرتاح من مشاغل الدنيا ويُصفّي ذهنه من أعبائها ومسؤولياتها، فيجلس في مكان ما، قد يكون بيته أو دار العبادة أو حديقة أو أمام البحر لينعم بالهدوء والتفكّر والتدبّر. ويختلف هذا الأمر من شخص لآخر ومن ثقافة أمّة لأخرى، فبنظرة عامة نرى الأنبياء والفلاسفة وغيرهم يمارسون هذه العادة عبر العصور والأزمان حسب الرؤى والمعتقدات، واصطلح الناس على هذا بالتصوّف أو الزهد.

إنّ الزهد في الدنيا يجعلك لا تطمع فيما في يد غيرك، ولا تطلب شيئًا بعيد المنال، فالقناعة كنز لا يفنى ولا ينتهي، والزهد أن تترك ما لا ينفعك ولا يعود عليك بالخير، وأن يعيش الغني باقتصاد، كما قال (غاندي): “يجب أن يعيش الأغنياء ببساطة أكثر حتى يستطيع الفقراء أن يعيشوا”، فالزاهد الحق هو الذي إذا أصاب الدنيا لم يفرح بها، وإذا أصابته الدنيا لم يحزن على فقدانها، والزهد هو تقصير الآمال والإخلاص في الأقوال والأعمال، وراحة في الدنيا فإنه يريح القلب والبدن معًا، وأن يصرف المرء نفسه ويبتعد عن الشهوة ويضبطها، وكذلك لا تملك شيئا ولا يملكك أو يتملّك منكَ أي شيء.

وعندما تشتدّ عليك الأيام، وتصعب عليك التكاليف وتتكالب عليك المِحن فاصبر وخذ بالأسباب لأن الدهر يومان: يوم لك ويوم عليك، والأيام لا تستمر ولا تدوم لأحد، فكم من شخص فقير تغيّرت أحواله وأصبح غنيًا وكم من غنيّ انقلبت أحواله وتبدّلت وأصبح فقيرًا، فاصبر على الأيام إنّ بعد العُسر يُسرًا.

ماذا يقول كونفوشيوس؟

وفي هذ السياق يبوح لنا كونفوشيوس عن جانب من جوانب حياته فيقول: “إني لأجد راحتي في طعام خشن آكله، وماء صافٍ أشربه، وذراع مثنية أتوسّدها، وأما ما يُكتسب بطريقة غير شريفة من المال والجاه فهو عندي كالزبرج.”، هذا درس كبير وتعاليم حياتية واقعية، وأما غير ذلك من العيش الرغد والترف الزائد وما يكتسبه الإنسان بطريقة غير شريفة فهذا كله وأشباهه مثل الزبرج، وهي الحِلية والزينة والجواهر الخارجية للإنسان، وليس حقيقيًا من الداخل.

والاقتصاد والاعتدال في العيش والحياة من الأمور المستحبة، بل إنّ الشخص الذي يطبق هذا في حياته يرتاح ويطمئن ولا يُصاب بالتوتر والقلق، ومن الأمور الممدوحة الاقتصاد في المنزل، فقد كان (جينغ) وهو من أبناء الأسرة الأميرية في إمارة (وي) يعرف الاقتصاد المنزلي جيدًا، فإنه لمّا كان له كفاف عيشه قال: “قد جمع شملنا”، ولمّا ازداد ماله شيئا قال: “قد كمل حالنا”، ولمّا أصبح غنيًا قال: “قد حسن حالنا”.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

والزهد في الدنيا يأخذ أشكالًا وألوانًا، فقد يكون الزهد في الطعام والشراب أو الوظيفة أو المال أو بعض الأشخاص، فمن الصالحين مَن يزهد في الدنيا، ومنهم مَن يزهد في الحياة المُضطربة، ومنهم مَن يزهد في الملك الذي لا يُكرمه، ومنهم مَن يزهد في الملك الذي يُصدّق النميمة.

والزاهد (تشانغ زي) كان يحب الحرية، ويُشبّه الزهد بالصديق فيخبرنا أنه من الأفضل أن تعيش الأسماك في البحار والأنهار بدلًا من المستنقعات، فالأسماك تأخذ حريتها في الماء الكثير دون مشاكل دون عَناء، وأما المستنقعات فماؤها قليل، فالصديق الحق هو المخلص الذي يساعد صديقه.

ودائمًا هناك صراع بين الإقبال على الدنيا والزهد فيها، والحب والبغض، والخير والشر، والفضائل والرذائل، إنّ التمتع بملذات الدنيا والاستمتاع بزخارفها ليس أمرًا سيئًا مكروهًا، وإنما كل شيء يكون بالاعتدال وعدم الزيادة، وألا تشغلنا هذه الملذات عن واجباتنا الأساسية،

فالقصد والاعتدال مطلوب في أمورنا كلها. إننا ينبغي أن نعيش باعتدال وبالأمل والثقة في النفس والتفاؤل وحب الحياة، والسعي والجد والاجتهاد والإنتاج والإبداع، واستخراج ثروات الأرض وما بُث فيها من خيرات، وتعمير الكون والرحمة والعفو والصفح عن الأنام للعيش في وئام وسلام.

 

اقرأ أيضاً:

القدوة بالأخلاق

دور حضارات الشرق القديمة في بناء الفكر الأخلاقي

الواجب الأخلاقي ودلالاته عند إيمانويل كانط

 

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

 

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د. وائل زكي الصعيدي

خبير مناهج وطرق تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها/ جامعة الاقتصاد والتجارة الدولية

محاضر في: جامعة الدراسات الأجنبية كلية العلوم الإسلامية الصينية / بكين – الصين

دكتوراه فى المناهج وطرق تدريس اللغة العربية

ماجستير في أدب الأطفال، ودبلوم خاص في المناهج وطرق التدريس، رئيس قسم الموهوبين بإدارة ميت أبو غالب التعليمية دمياط سابقاً

عضو اتحاد كتاب مصر