غاظني تماديه وهو يدخل عقلي باذلًا محاولاتٍ مستميتةً فقلتُ له بضيقٍ: “توقفْ! توقفْ!”، فلمعتْ عيناه وأشار بيده وقال بغموضٍ وإثارة: “العُزلة لا تفيد”، وحين رأيتُ أن أجرب حظي لنتُ له فأخذني ومضينا.
كانت مجموعةُ من سنذهب إليهم لا تتوافق مع مزاجي الشعبي، كانوا لا يتلقون مني إلا أنفةً مخلوطةً بكبرياء لا أملكُ غيره، أحسُ أنهم يحقدون عليَّ –رغم حالي– فيتهمني صديقي بحقدٍ اجتماعي قديم، حاول صديقي كثيرًا ولم أذهب، قال: “ستصحِّح فكرتك عنهم، هم يحبونك، وهذه المرة بالذات، يحتاجون إلى حكمتك الشعبية، اعقد معهم صلحًا مؤقتًا وسترى بنفسك”.
رأيتُ المكان عاليًا ومتسعًا، كانت أمي تقول: “قامتُك عاليةٌ وبابُ بيتنا واطئ”، دخلتُ بغير انحناء، كان وجهي يسبقُ قدمي وهو ينزلق أمامي على الأرضية النظيفة اللامعة، اتجهنا عبر الردهات الفخمة وسمعنا الأصوات الهامسة التي تلمس طبلة الأذنِ بنعومةٍ ورقة، أحسستُ بأن النظراتِ تلفُني برداءٍ من الأناقة لا أعرفُها، وحين التفت إليَّ صديقي أحسستُ أن اضطرابي يُنعشُ رُوحه، لكني لم اهتم، وتبعته حتى وصلتُ إلى نقطةِ تجمعهم.
بدا لي الجمعُ –لأول وهلة– كتلة بشريةً غائمة المعالم، فأخذتُ أحدقُ بقوةٍ: “يا ويل ضعف بصري!”، أخذتْ أجزاءُ الصورة تظهر بوضوحٍ وتتحدد أمام ناظري، شعرتُ لحظتها بدوارٍ فتساندتُ على مقعد؛ كان مرتفعًا قليلًا وكان ملمسُ غطائِه الحريري كالزئبق فانزلقتْ يدي وكدتُ أن أسقط، ولكن، في اللحظة الأخيرة تماسكت.
لقد كان من المتوقع أن أراهم –كبقية خلق الله– واقفين على أقدامهم، وكان من المتوقع أن أرى رؤوسهم –كبقية خلق الله أيضًا– في وضعها الطبيعي مرتفعةً فوق أكتافهم، لكني رأيتهم، وصديقي الذائب بينهم فجأةً، “مُنكّسين؟!”، كانوا –باليقين– “مُنكّسين مقلوبين!”، تسمرتُ فبدأوا يلتفون حولي، بأجسادهم المهتزة، بمرونةٍ واضحة في حين أرعبني صوتٌ صعد من أسفل إلى أعلى فصعدت معه رُوحي حتى اصطدمت بسقف حلقي: “يمشي على.. يمشي على…”، أكمل جملته صوتٌ لولا متانة سقف حلقي لفرّت منه رُوحي: “على قدمين! على قدمين!”.
كانت الدائرةُ التي تكونت منهم تزدادُ ضيقًا واقترابًا، درتُ حولي ورحتُ أتأملُ وجوههم فهالني رؤيتي للدهشة المنزلقةِ المتقاذفة فوق وجوههم اللامعة المقلوبة.
في العام الماضي شددتُ قامتي أمام رئيس العمل فلم يحتمل، احمرّ وجهُه كحبةِ طماطم فاسدةٍ، اتسعتْ عيناه وطار من شفتيه رذاذٌ له رائحةُ العطن، ومنحني نظرة ازدراء حارقةٍ من عينه الحولاء، وتلويحاتٍ كادت أن تعمي عينيّ الاثنتين، وثلاثة أيامٍ خصمها من راتبي الضئيل.
صعّدتُ نظري فوجدتُ سيقانهم تضربُ حذاءً بحذاء، وهي تهتز في الهواء بنعومةٍ غريبة، وانتابتني حالةٌ من التأمل المفاجئ الغريب حين أثارت أحجامُ أحذيتهم وألوانُها البراقة اللامعة، ونوعُ الجلود التي صُنعتْ منها كوامن حبي الشبقي القديم للمعرفة والثقافة والفلسفة وتاريخ الفكر الاجتماعي والاقتصادي والعالي والواطئ والخرافي والسحري والأسطوري والفيزيقي والميتافيزيقي والإمبريقي والدوجماطيقي والسوريالي والنفساني والجنوني، وتذكرتُ الحفاة الكبار: سقراط وبشرًا الحافي، فراح حُزني يرقصُ على نغمةِ مزمارٍ بلدي معطوب، ورحتُ أهرشُ رأسي حتى شعرتُ بلزوجةٍ ساخنة، فأدركتُ –بعد انقشاع سحابة رمادية غطتْ بصري– أني جرحتُ فروة رأسي فانشغلتُ بتضميد جرحي لفترة.
في لوثةٍ ضوئيةٍ ولونيةٍ تخيلتُ أني رأيت وجه رفيقي، بدا لي مصبوغًا بألوان الطيف وهو يخاطبني ويحرك جسمه ويده حركةً مسرحيةً مقلوبةً قبيحة الملامح: “أظهرْ حكمتك الشعبية الآن ووقِّعْ أوراق الصلح”، فطالعني واحدٌ له ملامحُ تشبه عجينة رغيفِ خبزٍ نيئ، وصعّدتُ نظري لكني لمْ استطعْ أن أتبين –يا ويل ضعف بصري– إن كان له ساقان أم لا.
كان أخي الأكبر وقد رباني بعد أبي، إذا سعل وقفت رُوحُه بين فكيه تتردد بين الخروج والمقام، وفي المرة الأخيرة سعل، بهدوء شديد، حتى كأنه لم يسعل، واهتز جسدُه النحيفُ جدًا، ثم اختفى سعالُه من حجرتنا.
تقدم آخر، خطف يدي، بحركةٍ محبوكةٍ فأحسستُ بلزوجةٍ تسكنُ قلبي وتستقرُ فيه كالنصل، انتفض جسدي، لكني تعرفتُ عليه أخيرًا: رجل مصارف مدينتي، رغم حالتي وغيمة الضباب فوق بصري تأكدت أنه “هو! هو! “، خاصة بعد أن سحبت –بكل بقايا قوة جسدي– يدي، وبصعوبة كاملة خلصتُها من يده.
شعرتُ بغثيان لكنّ شيئًا في جوفي لمْ يندفعْ إلى الخارج، وفكرتُ في نفسي أن أتحسس خاتمي الحديد فلمْ أجده: “قفز خاتمي من إصبعي إلى إصبعه؟!”، ولما حدّقتُ أفزعتني ملامحُ تذكرتُها بسرعة الضوء، ولو كنتُ أعمى لرأيته، وسحبتُ يدي في حين كان واحدٌ من أصابع كفة يدي الخمسة غير موجود، تحسستُ مكانه السابق فوجدتُ قطعةً من الجلد مرتقة فوق نتوءٍ عظمي لا ينبعث منه أيُ إحساسٍ بأي ألم، قال: “لا تشدد قامتك أمامي”، وحين شرحتُ له وجهة نظري ترك أصابعه الخمسة فوق لحم خدي.
ثم تراءتْ لي أنثى، وهي تمد يدها ليدي وتسحبها بسرعةٍ خفيفةٍ لكن بإغراء محبب، فهدهد الخدرُ اللذيذُ الوصلاتِ العصبية بعروقي وسرتْ إلى خلاياي راحةٌ ناعمة أفاقني منها صوتٌ له لسعُ تسعٍ وتسعين نحلةً انتخابية: “الآن.. دورك الآن”.
تقدمتِ الدائرةُ البشريةُ على رؤوسها، أما السيقان المرفوعة فقد رأيتُها غابةً كثيفةً: “دعوه يفعل.. دعوه يفعل”، قالها رئيسُ منصبٍ محلي مع دخان سيجار لا أعرفُ نوعه، وصرخ اللزجُ: “هيا.. هيا” فأخذتُ بغير إرادتي أتحسسُ إصبعي المفقود، وتذكرت خاتمي، فأخذت الدائرةُ تمعنُ في خنقي وشعرتُ بقلبي يضربُ طبلة أذني بعنفٍ دموي ساخن.
درتُ حولي، كخذروف الوليد، درتُ حولي، فصرخ واحدٌ مهمٌ جدًا في مدينتي: “على رأسك يا بن الأفعى لا على قدميك!”، ارتعش جسدي وارتجفتْ بداخلي مشكلتي وغلّفها صقيعٌ شامل: “لمْ أفعلْها من قبل”، كأنه قرأ أفكاري فضغط على كتفي واحدٌ له جثةُ فيلٍ، وراحتْ عجوزٌ مبهرجةُ الألوان والحياء تعظني بصوتٍ جنائزي: “أن ترغب هو كل المطلوب منك وسوف تجد نفسك، بتلقائية تامة، منكسًا مقلوبًا: تمشي على رأسك لا على قدميك! هذا كل ما نطلبه منك.. أليس ذلك شيئًا ميسورًا؟!”.
قال رجلٌ طيبُ القلبِ والرائحة: “استعن ثلاثًا وثلاثين مرةً.. في المرة الأربعين سوف يعينك الشيطانُ.. هيا”، أوجعتني عظامُ كتفي، وأحسستُ أنها قد تقوستْ، وضايقني ضعفي وغيمانُ الأشياء حولي، وحين اقترب مني جسدٌ أنثويٌ مشتعلٌ بخدرٍ لفّ عقلي وقلبي بغِلالةِ مرحٍ مفاجئ خفي، فأطاعني أخيرًا جسدي فاهتزتْ ساقاي في الهواء، وقبل أنْ يستقر رأسي إلى أسفل، معلقًا بين كتفي، أحسستُ بأن بصري قد ازداد قوةً وأن غطاءه قد انكشف، فصار بصري حديدًا، حديدًا.
حين رأيتهم، ولأول مرة: كانت سيقانُهم أسفل.. أسفل.. على الأرض.. ورؤوسُهم أعلى.. أعلى.. في السماء!
مقالات ذات صلة:
هل المثقف هو الأكثر عرضة للكآبة؟
مذلون مهانون .. رائعة دوستويفسكي الخالدة
أمثلة معاصرة لقصة الثعلب مقطوع الذيل
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا