إنهم يدعون لدينٍ جديد!
الدين ليس مجرد طقوسٍ عبادية أو نصوص نتلوها ونتبرك بها، لكنه قبل ذلك عقيدة تُشكل هوية الفرد والأمة، وهو في معية العقيدة إرثٌ حضاري متراكم يشمل علومًا وفلسفات وأدبيات فنية وأخلاقية واجتماعية، ويُشكل أعرافًا وتقاليد تحكم ممارسات من يجتمعون تحت لوائه ويتبعون شريعته.
دعوة توحيد الأديان
معنى أن تعبث بالأديان تحت دعوى توحيدها بحثًا عن القواسم المشتركة بينها هو أن تُفكك تلك العقائد والهويات المختلفة، وتمحو إرثها الحضاري وفوارقها العقدية، لتصنع مسخًا مشوهًا يُلبي نوازع الهيمنة السياسية وتطلعات برامجها، حتى وإن تدثرت هذه الدعوى بدثار نشر قيم المحبة والسلام.
لا يخفى على دارسي الأديان أن دعاوى توحيدها ليست وليدة اليوم، بل تمتد بجذورها الفلسفية والسياسية إلى عقودٍ خلت، لكن التوظيف السياسي لها اتخذ منذ مطلع الألفية أبعادًا جديدة.
تجلت تلك الدعاوى على استحياء في مبادرات تحمل مسميات جاذبة مختلفة: حوار الأديان، تجديد الخطاب الديني، مسار إبراهيم، مكافحة الإرهاب الفكري والديني، نبذ العُنف وضرورة التعايش السلمي بين الأديان، إلخ.
ما هي الديانة الإبراهيمية؟
ليتم مؤخرًا صك مصطلح الدين الإبراهيمي الموحد (New Abrahamic Religion) –ارتباطًا بما يُعرف بصفقة القرن– من قبل الإدارة الأمريكية، تمهيدًا لإنهاء حالة الصراع في المنطقة العربية وتصفية قضاياها المُلحة والمستعصية!
ليس ذلك فحسب، بل واتخاذ خطوات تنفيذية صريحة لتكريس الفكرة وتفعيلها، كتدشين عدد من المراكز البحثية أطلق عليها اسم مراكز الدبلوماسية الروحية، ووصف اتفاقيات التطبيع بالاتفاقات الإبراهيمية، وبناء بيت العائلة الإبراهيمية، صرحًا هندسيًا يُعمق فكرة التجليات المختلفة للذات المقدسة الواحدة في الأديان الإبراهيمية!
الأخطر من ذلك هو السعي إلى إعداد كتاب مُقدس جديد يضم فقط من نصوص الكتب المُقدسة ما لا يُمثل خلافًا بين أتباع الديانات السماوية المتباينة!
الدين الإبراهيمي والنظام الجديد
أثير الجدل حول الإبراهيمية بعد اتفاقيات التطبيع بين الكيان الصهيوني وبعض دول الخليج العربي، لا سيما الإمارات والبحرين، في سبتمبر من العام الماضي 2021، وهي الاتفاقيات التي تمت تحت رعاية الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، وأطلق عليها اسم اتفاقيات إبراهيم Abraham Accords.
مؤدى الهدف المعلن أن الإبراهيمية بمثابة بوتقة تنصهر فيها الديانات السماوية الثلاث: اليهودية والمسيحية والإسلام، لإنتاج دين جديد يقبله جميع المنتمين إلى الأديان الثلاثة، وإن كان من الواضح أن التركيز سيكون على الديانة اليهودية، حيث يعترف المسلمون بالديانات الثلاث، ويعترف المسيحيون باليهودية والمسيحية، بينما يعترف اليهود باليهودية فقط!
من جهة أخرى، اتخذت فكرة الديانة الإبراهيمية الجديدة زخمًا سياسيًا في سياق دعاوى إحلال السلام بين الشعوب ودعم الحوار بين الأديان وتجاهل كافة مُسببات الصراع المذهبي العقدي بين البشر، لا سيما في الشرق الأوسط.
يزعم مناصرو الفكرة –بغض النظر عن كونها عُنصرًا من عناصر تدشين نظام عالمي جديد يُرسخ لهيمنة قوى وثقافات بعينها– أن السلام والأخوة البشرية وإرادة التسامح الدينية وقيم المحبة والتسامح والتعايش السلمي تمثل قواسم مشتركة بين الأديان الثلاثة، يمكن بها تجاوز نقاط الخلاف وتنحيتها جانبًا.
لماذا رفض شيخ الأزهر الدين الإبراهيمي؟
هذا ما تنبه له فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر خلال خطابه في الذكرى العاشرة لاحتفال بيت العائلة المصرية (نوفمبر 2021).
إذ أعرب عن رفضه للفكرة التي تُخفي السُم في العسل، ووصفها بالحلم الكاذب، متسائلًا عما إذا كان الغرض منها هو تعاون المؤمنين من مختلف الأديان على قيمهم الإنسانية المشتركة والنبيلة؟ أم النية في خلق دين جديد عديم اللون، لا طعم له ولا رائحة؟!
قال أيضًا إنها تبدو وكأنها دعوة للتجمع البشري وللقضاء على أسباب الخلافات والصراعات، لكنها في الواقع دعوة لتقييد حرية المعتقد والاختيار!
فكرة توحيد الأديان في دين واحد مدمرة ومثيرة للخلاف
أكد فضيلته أيضًا خلال كلمته في المؤتمر السابع لزعماء الأديان العالمية والتقليدية، الذي عُقد في كازاخستان خلال الفترة من 14 إلى 15 سبتمبر 2022، تحت عنوان دور قادة الأديان العالمية والتقليديَّة في التنمية الروحية والاجتماعية للبشرية في فترة ما بعد وباء كوفيد-19، أن فكرة توحيد الأديان مدمرة ومثيرة للخلاف!
الموضوع أخطر مما نتصور، ويتجاوز مسألة الحوار بين الأديان والتعايش السلمي بينها إلى مصادرة حرية العقيدة الدينية، والعبث بالمقدسات وتشويه وعي العامة والأجيال التالية.
“وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ”، (هود: 118) و”لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا”، (المائدة: 48).
اقرأ أيضاً:
قراءة في “دليل أكسفورد في الدين والعلم”
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
*********
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا