العقل ومدارس الفلسفة الإسلامية .. الجزء الثالث والستون

تحدثنا –صديقي القارئ صديقتي القارئة– في الدردشة السابقة، (ج 62) عن إخوان الصفا: وكتابهم “رسائل إخوان الصفا”: ميتافيزيقا العلوم [16]: التطورُ الموجَّهُ بالحكمةِ الإلهية (1): الواحد علّة ومبدأ تطور الموجودات.

ولنواصل –في هذه الدردشة– مقاربتَنا التأويليةَ: إخوان الصفا وكتابهم: “رسائل إخوان الصفا”.

التطور: تراتبُ الموجوداتِ ونظامُ الكائنات

بين إخوان الصفا مراحلَ التطور، في عالمنا: عالم ما دون فلك القمر، من التراب والماء إلى المعادن، ومن المعادن إلى النبات، ومن النبات إلى الحيون، ومن الحيوان إلى الإنسان، فهي أربع مراحل، فالجماد متقدم على المعادن بالزمان، والمعادن متقدمة على النبات، والنبات متقدم على الحيوان، والحيوان متقدم على الإنسان. فالتقدم يعني سلمًا أدنى من التطور، والتأخر يعني سلمًا أعلى.

ولكل مرحلة مرتبتين: دنيا وعليا، فكأن مراحل التطور جميعها ثمان مراحل رئيسة، تتخللها مراحل بينية تترتب فيها الموجودات وتنتظم في نظام تطوري محكم. يقول إخوان الصفا:

“واعلم يا أخي بأن آخرَ مرتبةِ الحيوانية متصلٌ بأول مرتبة الإنسانية، وآخرَ مرتبةِ الإنسانية متصلٌ بأول مرتبة الملائكة، وأن أولَ مرتبةِ الحيوان متصلٌ بآخر مرتبةِ النبات، وآخر مرتبة الحيوان مُتصلٌ بأول مرتبة الإنسان، كما أن أولَ المرتبةِ النباتية متصلٌ بآخر المرتبة المعدنية، وأولَ المرتبةِ المعدنية متصلٌ بالتراب والماء”.

“فمن أجل تلك الموجودات المختلفة الأجناس، المتباينة الأنواع، المربوطةِ أوائِلُها بأواخرها، وأواخرها بما قبلها في الترتيب وانتظام المّولداتِ، الكائناتُ –التي دون فلك القمر– وهي أربعةُ أجناس: المعادنُ والنبات والحيوان والإنسان، وذلك أن كلَّ جنسٍ منها تحته أنواعٌ كثيرةٌ، فمنها ما هو في أدوَنِ المراتب، ومنها ما هو في أشرفها وأعلاها، ومنها ما هو بين الطرفين”.

التطور في المعادن: من الجص والزاج إلى الياقوت والذهب الأحمر

وصف إخوان الصفا المعادن البدائية من أدونها: الجص والزّاج إلى أعلاها (أو أشرفها وفق تعبيرهم): الياقوت والذهب الأحمر قائلين:

“فأدونُ أطرافِ المعادن مما يلي الترابَ الجِصُّ والزاجُ وأنواع الشُّبوب، والطرفُ الأشرفُ الياقوتُ والذهبُ الأحمرُ، والباقي بين هذين الطرفين من الشرف والدناءة كما بينا في رسالة المعادن”.

التطور في النبات: من المَعدِن النباتيّ والنبات المعدني إلى النبات الحيواني

كذلك وصف أخوان الصفا النباتات من أدونها إلى أشرفها، أي: من النبات البدائي، ومن أمثلته: “الكمْأةُ وخضراءُ الدِّمَن”، و”هذا مَعدِن نباتيٌّ وذلك نباتٌ معدني”، ووصفوا أعلى درجات التطور في النبات مما يلي رتبة الحيوان، أي: النخل، “أشرف الرتبة مما يلي رُتبة الحيوان، وهي شجرة النخل”، وهذا ما يسميه علماءُ الحيوان، في الصور الحيوانية النباتية باسم “الحيونبيات” (نحت من حيوان+ نبات). ثم وصفوا هذه المرتبة الأخيرة من النبات: النخل، الذي تنتهي به المملكة النباتية، وتبدأ من عنده مملكة الحيوان.

أدون رتب النبات مما يلي رتبة المعادن: الكمْأةُ وخضراءُ الدِّمَن

وفي ذلك يقول إخوان الصفا: “وهكذا أيضًا حُكمُ النباتِ فإنه أنواعٌ كثيرةٌ متباينةٌ متفاوتةٌ، لكن منه ما هو في أدون الرتبة مما يلي رتبة المعادن، وهي خضراءُ الدِّمَن، ومنها ما هو في أشرف الرتبة مما يلي رُتبة الحيوان، وهي شجرة النخل. وبيان ذلك أن أول المرتبةِ النباتية وأدونها مما يلي الترابَ هي خضراءُ الدِّمَن، وليس بشيء سوى غُبارٍ يتَلبَّدُ على الأرض والصخور والأحجار، ثم تُصيبه الأمطارُ وأنداء الليل، فيصبح في الغد كأنه نبتُ زرعٍ وحشائش. فإذا أصابه حرُّ شمسِ نصف النهار جَفَّ، ثم يُصبح من غَدٍ مثلَ ذلك من أولِ الليل وطيبِ النسيم. ولا تنبُت الكمْأةُ ولا خضراءُ الدِّمَن إلا في أيام الربيع في البِقاع المتجاورة لتقارُب ما بينها، لأن هذا مَعدِن نباتيُّ وذلك نباتٌ معدني”.

أعلى رُتب النبات مما يلي رُتبة الحيوان: النخل

وفي ذلك يقول إخوان الصفا: “وأما النخلُ فهو آخر المرتبة النباتية مما يلي الحيوانية، وذلك أن النخل نباتٌ حيوانيٌ، لأن بعض أحواله مباينٌ لأحوال النبات، وإن كان جسمه نباتًا. بيان ذلك أن القوةَ الفاعلة منفصلةٌ من القوة المُنفعلةِ، والدليل على ذلك أن أشخاص الفحولةِ منه مباينةٌ لأشخاص الإناثِ، ولأشخاص فحولته لقاحٌ في إناثها كما يكون ذلك للحيوان. فأما سائر النبات فإن القوة الفاعلة فيها ليست بمنفصلةٍ عن القوة المُنفعلة بالشخص بالفعل حسبَ ما بينا في رسالة لنا، وأيضًا فإن النخل إذا قُطِعت رؤوسُها جفَّت وبطل نموُّها ونشوؤها وماتت. كلُّ ذلك موجودٌ في الحيوان، فبهذا الاعتبار تبين أن النخل نباتيٌّ بالجسم، حيوانيٌّ بالنفس، إذ كانت أفعاله أفعالَ النفس الحيوانية، وشكلُ جسمِه شكلَ النبات، فقد بان بما وصفنا أن آخرَ الرتبةِ النباتيةِ متصلٌ بأول المرتبة الحيوانية، وأما سائر المراتب النباتية فهي بين هذين”.

“وفي النبات نوعٌ آخرُ فعله أيضًا فعل النفس الحيوانية، وإن كان جسمه نباتيا، وهو “الكَشوث” وذلك أن هذا النوع في النبات ليس له أصل ثابت في الأرض كما يكون لسائر النبات، ولا له ورق كأوراقها، بل هو يلتف على الأشجار والزرع والحشائش ويمتص من رطوبتها ويغتذي كما يفعل الدودُ الذي يدب على ورق الأشجار وقضبان النبات”.

وهكذا وصف إخوان الصفا النبات الأكثر تطورًا مثل النخل والكَشوث، بما يأتي: “وأما النخل فهو آخر مرتبة النبات مما يلي الحيوانية. وذلك أن النخل نبات حيواني لأن بعض أحواله وأفعاله مباين لأحوال النبات، وإن كان جسمه نباتًا”.

الحكمة الإلهية في حفظ الكائنات وبقائها

ولم ينسَ إخوان الصفا وهم يصفون تطور النباتات ورتبته الوسيطة بين المعادن والحيوان، الحكمةَ الإلهيةَ، فتطورهم موجهةٌ بها منظمٌ بفعلها الحكيم، وفي ذلك يقول إخوان الصفا: “فاقتضت حكمة الله تعالى أن يكون النبات واسطة بين الحيوان والأركان (المعادن)، لطفًا من الله بخلقه وعناية منه لبريته، فتبارك الله أحسن الخالقين”.

“لأن الحكمة الإلهية من مقتضاها أن لا تعطي الحيوان عُضوًا لا يحتاجُ إليه في جذبِ المنفعة ودفع المضرةِ، لأنها لو أعطته ما لا يحتاجُ إليه لكان وبالًا عليه في حفظه وبقائه”.

“وأما حِسُّ الألم فليس للنبات، وذلك أنه لم يَلِق بالحكمة الإلهية أن تجعل للنبات ألمًا، ولم تجعل له حيلةَ الدفعِ كما جعلت للحيوان، وذلك أن الحيوان لما جعلتْ له أن يُحِسَّ بالألم جعلتْ له أيضًا حيلةَ الدفع إما بالفرار والذهاب والهرب، وإما بالتحرُّز، وإما بالممانعة. فقد بان بما وصفنا كيفية مرتبة الحيوانية مما يلي النبات، فنريد أن نبين كيفيةَ مرتبة الحيوانية مما يلي رتبة الإنسان فنقول:…”.

في الدردشة القادمة –بإذن الله– نواصل رحلتنا التأويلية مع إخوان الصفا وكتابهم: “رسائل إخوان الصفا”: ميتافيزيقا العلوم: ميتافيزيقا التطور: التطورُ الموجَّهُ بالحكمةِ الإلهية (3): تراتب الموجودات: من النبات إلى الحيوان.

مقالات ذات صلة:

الجزء التاسع والخمسون من المقال

الجزء الستون من المقال

الجزء الواحد والستون من المقال

الجزء الثاني والستون من المقال

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا