مقالات

هل نثق في العلم؟ كيف؟ ولماذا؟!

على مدار ألفية كاملة بعد بطليموس، كان علماء الفلك يعتقدون بالخطأ أن الشمس تدور حول الأرض، وفي القرن التاسع عشر اعتقد علماء فراسة الدماغ (Phrenology) على نحو زائف أن شكل جمجمة الشخص يعكس ملكات عقلية مسئولة عن صفات معينة تُشكل شخصيته، وفي القرن العشرين عارض عديدٌ من العلماء بشدة فكرة الانجراف القاري أو تزحزح القارات (Continental drift)، رغم الثبوت الحالي لفكرة تحرك الصفائح التي تحمل القارات! فهل بإمكاننا اليوم أن نثق فيما نسميه حقائق علمية؟ هل نستطيع أن نُحدد الأفكار والمزاعم العلمية التي يمكن أن تستمر إلى الأبد دون أن تكون عُرضة للثورات العلمية المستقبلية؟ قد يُجيب بعضنا بالنفي، لكن فيلسوف العلم الإنجليزي بيتر فيكرز (Peter Vickers) يُجيب في كتابه: تحديد علم برهان المستقبل (العلم الكافي للمستقبل، أو الذي سيظل قائمًا دون نسخ أو تخطئة) (Identifying Future-Proof Science) (2022) أن ذلك ممكن في كثيرٍ من الأحيان!

ثمة موقف فلسفي يُعرف أحيانًا باسم التواضع الفكري (Intellectual Humility)، ينطوي على الشك فيما إذا كانت هناك حقائق نهائية، مستدلًّا على ذلك بالثورات العلمية وتحولات النماذج الإرشادية (Paradigms) –التغييرات في أنساق المعتقدات والقيم والتقنيات– على مدار التاريخ. يبدو هذا عقلانيًّا ومنطقيًّا للغاية، فالتواضع فضيلة، وليس ثمة مَنْ يجرؤ على التأكيد على أن بعض المزاعم العلمية التي يتم إقرارها اليوم ستظل معتمدة من قبل المجتمعات العلمية التي ستتواجد بعد خمسة آلاف سنة من الآن!

من جهة أخرى، غالبًا ما يستخدم المشككون في التأكيدات العلمية حجة بسيطة، مؤداها أن العلماء كانوا متأكدين في الماضي، لكن الأمر انتهى إلى كونهم على خطأ. على سبيل المثال: سنة 1903م كتب الفيزيائي الأمريكي ألبرت ميكلسون (Albert Michelson) –المشهور بتجربة ميكلسون مورلي Michelson–Morley experiment– قائلًا: “لقد تم اكتشاف جميع القوانين والحقائق الأساسية الأكثر أهمية في العلوم الفيزيائية، وهي مثبتة بقوة لدرجة أن إمكانية أن تحل محلها قوانين وحقائق أخرى نتيجة لاكتشافات جديدة بعيدة للغاية”. كان هذا قبل فترة وجيزة من تحول الفيزياء بشكل كبير من خلال نظريتي النسبية الخاصة والعامة وميكانيكا الكمِّ. وثمة عديد من الاقتباسات المشابهة، مما يدل –على ما يبدو– على الثقة المفرطة حتى لدى أفضل العلماء.

لعل هذا ما دفع مؤرخة العلم الأمريكية ناعومي أوريسكس (Naomi Oreskes) –من مواليد 1959م– إلى التأكيد في كتابها: لماذا نثق في العلم؟ (Why Trust Science?، 2019م) على أن تاريخ العلم يُظهر بوضوح أن الحقائق العلمية أيًّا كانت قابلة للتكذيب، وأن مساهمات العلم لا يُمكن أن تكون لها سمة الثبات أو الدوام! وحين صرَّح الفيزيائي الأمريكي ستيفن واينبرغ (Steven Weinberg- 1933: 2021م) –الحائز على جائزة نوبل في الفيزياء سنة 1979م– بأن ثمة حقائق يجب اكتشافها، وأن الحقائق التي تم اكتشافها ستشكل جزءًا ثابتًا ودائمًا من المعرفة البشرية، ردت عليه أوريسكس قائلة: “واينبرغ رجلٌ متألق، لكن هذا التعليق يعكس إما جهلًا مُطبقًا بتاريخ العلم، أو تجاهلًا صادمًا للأدلة التي تم جمعها في مجالٍ آخر”، وكانت تعني بذلك مجال التاريخ.

ما الحقائق العلمية؟ لكي نجيب عن هذا السؤال لا بد أولًا من التفرقة بين مصطلحين متداخلين غالبًا في الإنجليزية، لا سيما في أذهان العامة، الأول: (Fact) بمعنى واقعة. والثاني: (Truth) بمعنى حقيقة. وإن كان الشائع ترجمة المصطلحين في العربية بكلمة “الحقيقة”.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

الواقعة ببساطة تقرير أو تصريح أو بيان صادق، أو قضية بالمعنى المنطقي، وهي تشير إلى حدثٍ أو معطى حسي في نقطة مكانية– زمانية بعينها، أو وفق شروط مُحددة، بناءً على بحثٍ تجريبي ومقاييس كمية يمكن الوثوق بها، وبالتالي فالواقعة قابلة للتغيير، أما الحقيقة فهي شيء يتجاوز مجرد الحدث المكاني– الزماني أو المعطى الحسي المتغير، فإذا كانت الواقعة تجيب عن عدة أسئلة مثل: أين؟ ومتى؟ وكيف؟ فإن الحقيقة تجيب عن سؤال الماهية الثابتة التي قد نعتقد بها أو ننكرها دون أن نقع في التناقض. وعلى هذا النحو، فحين نتحدث عن الحقيقة في العلم، فإنما نتحدث عن الواقعة، وهذه الأخيرة ليست مطلقة، وإنما تتعلق بالنموذج الإرشادي السائد، وغالبًا ما يتم تجاوزها لتحل محلها حقيقة أخرى مع تحول النموذج الإرشادي إلى آخر. ولا يذهب المؤيدون للتواضع الفكري إلى أنه لا يوجد شيء دائم، لكنهم يُنكرون معرفة أية مزاعم أو ادعاءات أو رؤى محصنة ضد التعديل أو النسخ والاستبعاد في المستقبل، كما أنهم لا يقولون: إننا يجب ألا نثق في العلم، لكنهم يقيدون الثقة بمرحلية النماذج الإرشادية وديناميكيتها.

على أن التواضع الفكري يبدأ في اتخاذ مظهرٍ سخيف بمجرد دفعه إلى نهايته المنطقية، لأن عدم الثقة في العلم تعني أننا لا نعلم حقًّا –على سبيل المثال– أن الشمس نجم، أو أن القارات تنجرف، أو أن التدخين يُسبب السرطان، أو أن الاحتباس الحراري أمرٌ حقيقي وناتج عن ممارسات البشر. في مثل هذه الحالات يبدو من المعقول أن نُعوِّل على الإجماع العلمي كمبرر للثقة بالعلم، صحيح أن الإجماع يمكن أن يتشكل لأسباب سيئة، كالإجماع الناجم عن التأثير الإعلامي أو الضغط النفسي، مثلما حدث في أزمة كوفيد- 19، إلا أن ثمة معايير من شأنها تلافي حُجج المشككين، منها أولًا حجم الإجماع، فإذا كان ما لا يقل عن خمسةٍ وتسعين بالمائة من العلماء ذوي الصلة على استعدادٍ لتأكيد واقعةٍ ما بشكلٍ لا لبس فيه وبلا أية محاذير جوهرية، فبإمكاننا وقتئذٍ أن نتحدث عن حقيقة علمية ثابتة.

من عوامل قبول الإجماع العلمي أيضًا أن يشمل مجموعة كبيرة ومتنوعة من العلماء على المستوى الدولي، وعلى مدى عقودٍ طويلة تتأكد خلالها الواقعة وفقًا لمشاهدات جديدة وباستخدام أدوات قياس أكثر حداثة ودقة. خذ مثلًا مسألة الانجراف القاري، في القرن السادس عشر كان ثمة فرضٌ علمي طرحه الجغرافي الفلمنكي أبراهام أورتيليوس (Abraham Ortelius- 1527: 1598م) مؤداه أن القارات ربما كانت مُلتحمة قبل الانجراف إلى مواقعها الحالية، وقد خضع هذا الفرض للتطوير والتوضيح سنة 1912م على يد عالم الفلك الألماني ألفرد فيغنر (Alfred Wegener- 1880: 1930). ومع ذلك ظل فرض الانجراف القاري محل جدل ولم يلق قبولًا واسعًا من المجتمع العلمي حتى الخمسينيات من القرن العشرين نظرًا لعدم شرحه للآلية التي يتم بها الانجراف، حتى تم التوصل إلى عددٍ من الاكتشافات ومنها الباليومغناطيسية (Palaeomagnetism): دراسة البيانات المقاسة للمغناطيسية الأرضية للصخور، والتي تُعبر عن السلوك المغناطيسي السابق للمجال المغناطيسي للأرض والمواقع السابقة لغلاف الأرض الصخري، وهي الدراسة التي قدمت دعمًا قويًّا لنظرية الانجراف القاري، ما جعلها بمثابة حقيقة علمية وقاعدة أساسية في النماذج المعاصرة للصفائح التكتونية (Plate Tectonics).

ماذا إذن لو اعترض أحدهم مشيرًا إلى أن الأوساط العلمية قد توصلت في الماضي إلى إجماع قوي بشأن أفكارٍ تم رفضها الآن تمامًا؟ الحق أنه على مدار تاريخ العلم بأكمله –فيما يزعم بيتر فيكرز– لم يتم في الغالب رفض حقيقة علمية استوفى الإجماع عليها تلك المعايير، بل على العكس من ذلك، تم تأكيد هذه الحقائق العلمية بشكلٍ أقوى لتغدو راسخة. هذا من جهة، ومن جهة أخرى ربما كان رفض بعض الحقائق واستبعادها عبر مسيرة الثورات العلمية سببًا قويًّا للثقة بالعلم؛ لأن ذلك يعني ببساطة خضوع الحقيقة العلمية دومًا لمنهج علمي صارم كشرط لقبولها وبقائها. هذا ما يُوضحه فيلسوف العلم النمساوي– الإنجليزي كارل بوبر (Karl Popper- 1902: 1994م) من خلال ما يُسميه: التخمينات والتفنيدات (Conjectures and Refutations) كسبيل للتقدم العلمي، إذ يُواجه العلماء سؤالًا يُؤرقهم، ويقدمون إجابة محتملة عنه هي بمثابة تخمين، بمعنى أنهم ليسوا على يقين من أنها إجابة صحيحة، لذا يبذلون قصارى جُهدهم لدحض هذا التخمين، فإن صمد تم قبوله مؤقتًا، وإن لم يصمد تم استبعاده وطرح بديل له. وقد تكون هذه العملية بطيئة للغاية، فقد توقع آلبرت أينشتاين (Albert Einstein– 1879: 1955م) مثلًا وجود موجات الجاذبية في الفضاء الكوني منذ أكثر من مائة عام باعتبارها جزءًا من نظريته العامة في النسبية، ولم يتمكن العلماء من مراقبتها إلا سنة 2015م! وهكذا فإن جوهر المنهج العلمي –وفقًا لـ”بوبر”– هو محاولة دحض أو تفنيد النظريات، وهو ما أطلق عليه اسم: مبدأ التكذيب (Falsification Principle)، وإذا لم يتمكن العلماء من دحض نظريةٍ ما على مدى فترة زمنية طويلة رغم بذل قصارى جُهدهم في ذلك، فقد تم تعزيز (Corroboration) النظرية، وهو ما يؤدي بنا في النهاية إلى الإجماع على كونها حقيقة علمية.

ومن الأمثلة الواضحة على هذا المنهج نظرية الاحتباس الحراري (Global Warming)، كان الفيزيائي الفرنسي جوزيف فورييه (Joseph Fourier- 1768: 1830م) هو أول من أشار إلى هذه الظاهرة سنة 1824م. وفي سنة 1894م قام الفيزيائي السويدي سفانت أرينيوس (Svante Arrhenius- 1859: 1927م) بحساب الزيادة في مستويات الغازات الحرجة بالغلاف الجوي نتيجة العمليات الصناعية، وأفاد في سنة 1896م أنه لو تضاعفت كمية ثاني أكسيد الكربون في الهواء، فسوف ترتفع درجات الحرارة بما يتراوح بين خمس وست درجات مئوية. وقد اكتسب هذا الفرض دعمًا محدودًا من بعض العلماء، لكن معظمهم ظلوا غير مقتنعين به حتى منتصف القرن العشرين تقريبًا. ومنذ ذلك الحين اجتازت نظرية تغير المناخ الناجم عن انبعاث ثاني أكسيد الكربون بفعل الأنشطة البشرية –مثل حرق الوقود الأحفوري– عدة اختبارات متتالية بنجاح، حتى إن إحدى الدراسات الإحصائية وجدت أن أكثر من تسعة وتسعين بالمائة من أعضاء المجتمع العلمي الدولي ذي الصلة يؤيدون النظرية، وهذا إجماع يرقى بالنظرية إلى مرتبة الحقيقة الثابتة.

الخلاصة: لدينا بالفعل أسبابٌ قوية تدفعنا إلى الثقة بالعلم، وإلى الثقة فيما يُخبرنا به العلماء، وإن كانت هذه الثقة غير مطلقة، بمعنى أنها مشروطة باستيفاء العلماء لكافة المبادئ الأخلاقية للبحث العلمي، وأهمها النزاهة والحيادية والاستقلالية. ولئن سألتني في النهاية: هل تثق في العلم؟ ولماذا؟ لأجبت قائلًا: نعم، أثق في العلم وفق ما سبق أعلاه، لأن نظرياته تعمل، أي تشغيلية، على الأقل مرحليًّا، ولأنه الخيار الوحيد أمام العقل الذي هو مناط التكليف وإعمار الأرض في حواره الجدلي مع الطبيعة، ولأن البديل المباشر له هو الجهل، ولأنه درب المؤمن إلى معرفة الله وخشيته، )إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ( [فاطر: 28].

مقالات ذات صلة:

 أغرب الفرضيات العلمية

العلماء ورثة الأنبياء

العلوم النظرية والعلوم التطبيقية.. أيهما أهم؟

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

*************

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ. د. صلاح عثمان

أستاذ المنطق وفلسفة العلم – رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة المنوفية