مقالات

الحرب الرمزية .. الجزء الأول

أشد أنواع الحروب فتكاً بالإنسان

إن الحرب الرمزية هي أشدُّ أنواع الحروب فتكًا وتدميرًا لواقع الإنسان المادي المشهود ولقيمه المعنوية المضمرة، إذ إنها لا تَقضي على الأخضر واليابس شأن الحروب المادية، ولكنها فوق ذلك وبعده تُلوّث المعاني السامية، والقيم الطاهرة في نفوس الناس،

فتُفقدها طُهْرها ونقاءها في وعي الناس وقلوبهم ومن ثم تُضعف قوتها عند الناس، وتنال من مردوديتها في ضمائرهم، إذ إنها –أقصد القيم والمعاني– صارت مطيةً لأغراضٍ غير معلنة وغير مجردة، وقد كان ينبغي أن تكون غايةً في نفسها شأن القيم والمبادئ السامية.

جوانب الحرب الرمزية

الحرب الرمزية

ويَلزمنا حتى نَعِيَ ذلك أن نتوقف أولا مع الرمز ودوره في حياة الإنسان، إذ إن هذه الحرب تُخاض على ظهره ومن خلاله، فندرك مفهومه تعريفا، ونعرف صور اختلافه رمزا بين الناس.

ثم نرى بعد ذلك كيف تتردد هذه الحرب الرمزية –في العمق– بين مشهد له جانبان: ظاهره الرحمة وباطنه العذاب، الأمر الذي يجعلك أنت أيُّها المتأمل المدرك لما أقول، لا ترى دفاعا عن قيمٍ ومعانٍ بقدر ما ترى لؤما وجنونا يؤمُّ خزيا وعارا،

اضغط على الاعلان لو أعجبك

هذا ما سأسعى إلى تحليله وتسليط الضوء عليه، في هذه الكلمات، كل ذلك استجلاءً لحقيقة “الرمز” الذي بات الكثيرون يتسلّلون من خلاله مُستغلينَ طُهْرَه من جهة، وغفلةَ الناس عن حبائله وشَرَكِهِ من جهة أخرى، فتظهر الحُجة، وتتضح المحجة، ” لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ”.

أهمية الرموز في حياة الإنسان

إذا كان الإنسان –دون المخلوقات الأخرى– هو وحده الذي استطاع أن يُصنّف العالم الطبيعي داخل مجموعة من الرموز هي لغته التي يتكلمها، فمعنى ذلك –على مستوى أعلى– أن الإنسان لا انفكاك له عن رمز يختصر ما يتبناه من معانٍ وقيم وأفكار،

به يتداول الإنسان هذه المعاني والقيم، ويكون هذا الرمز –في الوقت ذاته– تجسيدا مرئيا لتلك المعاني وهذه القيم في الوجود المادي، بعبارة مختصرة: الإنسان كائن رمزي لغةً ووجودا.

مفهوم الرمز

إن مركزية الرمز في حياة الإنسان تُلزمنا بالاقتراب من مفهوم الرمز نفسه، لنجد أن الرموز: هي أشياء ملموسة –سواء أكانت أشخاصا، أم أحداثا، أم كلمات أم مؤسسات– تُجسّد مضامين ورؤى وقيما، وتُعدُّ هذه الرؤى والقيم التي تقف خلف الرمز مهمةً لتأمين الوجود المادي والمعنوي لجماعة معينة من الناس،

إذ إنهم يستلهمونها معانيهم، ومن اتساع دائرة انتشارها يشعرون بحضورهم المادي والمعنوي، فهي مقياس وجودهم، بذيوعها يترسخ ذلك الوجود ويتسع، وبانحصارها يتقلص هذا الوجود ويتلاشى.

إن هذا الذي انتهينا إليه إنما يعني تعددا غير متناهٍ في الرموز، سواء أكان هذا التعدد في ماهيتها، أم في وظيفتها، أم في مجالها، أم في الموقف منها، وسنتوقف مع كل لون من ألوان هذا التعدد، ونعرف أسبابه، فيما هو آتٍ، كل ذلك إحكاما منا لمسالك هذه الحرب، وتمهيدا لكشف إجراءاتها ومناوراتها، ونتائجها.

تعدُّديّة الرمز وتعقّد الواقع

الحرب الرمزيةإن سر هذا التعدّد غير المتناهي للرموز في حياة الناس ذلك الذي انتهينا إليه سابقا، هو أن الرمز وثيق الصلة بالواقع، إذ إن الرمز –في العمق– قراءةٌ غير مباشرة للواقع وأحداثه من قبل صاحب هذا الرمز، وتعبيرٌ مركّزٌ عن موقفه من وقائع هذا الواقع وأحداثه، وانطلاقا من تعقد هذا الواقع المقروء، تتعدد الرموز وتتعدد المواقف منها، ولهذا التعدد صوره المختلفة، على النحو التالي:

أولا: تعدّد مجالات الرمز

إن هذا الواقع الذي يأتي الرمز تعبيرا عن الموقف منه، تتعدد مجالاته ما بين: ديني وعلمي وثقافي وفكري وسياسي واجتماعي وترفيهي،

ولكل مجال من هذه المجالات قراءاته المتصارعة التي ترى أن رؤيتها للمجال المعيّن هي الأصدق تعبيرا والأجدر قبولا، ولكل قراءة من هذه القراءات المتصارعة داخل مجال معين، رموزها التي بتبني المرء لها يكون مُعبّرا عن موقفه إزاء هذا المجال بشكل مختصر.

ثانيا: تعدّد المواقف إزاء الرمز الواحد

إذا كنا في الصورة سالفة الذكر نرصد تعددا في الرموز المُتَّخَذة إزاء المجالات المختلفة، فإننا في هذه الصورة نرقب تعدُّدا في المواقف إزاء الرمز الواحد، ومما لا شك فيه أن هذا اللون من التعدد أخفى وأدق من السابق،

لأنه ليس تعددا في الرموز بسبب اختلاف المجال أو اختلاف الموقف المتبنى إزاء المجال الواحد، ولكنه تعدد في المواقف إزاء الرمز الواحد.

أسباب اختلاف أسلوب تعاطينا مع الرمز

وبيان ذلك أننا في هذه الصورة نتفق على رمزية شيء ما، أي أنه يجسّد قيما معينة بصورة مركّزة، ثم نختلف بعد ذلك في أسلوب تعاطينا مع هذا الرمز الذي يُمثّلها، ويرجع هذا الاختلاف إلى أسباب متعددة، منها:

  1. الاختلاف في طريقة استلهام هذا الرمز، بمعنى أنني لا أستلهم هذا الرمزَ على نحو ما تستلهمه أنت، فقد تُضيّق أنت معانيه في حين أنني أُوسّعها أو العكس.
  2. الاختلاف في أولوية بعض القيم التي يمثلها هذا الرمز على بعضها الآخر، فقد يُعطي إنسان ما –في تعاطيه مع المجال الديني مثلا– الأولوية للقيم السياسية أو الكلامية النظرية، في حين أن آخر يعطي الأولوية للقيم الأخلاقية العملية.
  3. الاختلاف في طريقة توظيف هذا الرمز، أي أنني لا أوظّفه على نحو ما توظّفه أنت، وهذه الصورة لازمة عن الصورتين السابقتين.

ثالثا: تعدّد ماهية الرمز

يأخذ هذا التعدد في ماهية الرمز أشكالا مختلفة باختلاف مفردات الوجود الإنساني، الذي يُمثّل للإنسان حقلا يجتني المرء منه رموزه التي تعبّر عن قيمه ومواقفه، فتأتي الرموز في صور متعددة على النحو التالي:

  1. الكلمات التي يُسمّى أحدنا بها حدثا ما، فالكلمة إذا ما استُخدمت –فكريا– إزاء حدث معين أو مؤسسة ما أو شخص معيّن، غالبا ما تكون “رامزة” أكثر منها “دالةً” على معنى تحمله، بمعنى أنها ذات دلالات أبعد من معانيها المباشرة عند مستخدمها، فتصير بـ “رمزيتها” تلك مُمَثّلةً لـ”موقف مستخدمها” إزاء ذلك الحدث أو المؤسسة أو الشخص، ككلمة: ثورة أو انقلاب وغيرها، فالكلمات –من منظور رمزي– ليست بريئة، فهي إنْ بدت على اللسان “أول التعبير”، إلا أنها في العمق “محصلة التفصيل”.
  2. الأشخاص والأشياء من مؤسسات، تلك التي يَنظر لها الإنسانُ على أنها محل تقدير واحترام أو العكس، فتقديرك لشخص معين أو مؤسسة ما، إنما يكون لما يُجسده ذلك الشخص أو تلك المؤسسة من قيم ومعان ترى أولويتها –من منظورك ووفقا لقراءتك– على قيم ومعان أخرى.
  3. الأحداث، فالحدث له طبيعة رمزية حينما يَنظر إليه أحدُنا على أنه حدث متميّز أو العكس، ومن ثم يتخذه رمزا على موقفه إزاء مجال معين من مجالات الواقع التي سبق أن أشرتُ لها.

بإيجاز وفي كلمة واحدة: أينما تكونوا يدرككم الرمزُ.

اقرأ أيضاً:

الحرب الناعمة 

 تأثير الكلمات على نفوسنا

السياق وتقدير القيمة

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

*****************

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د . أحمد عزت عيسى

مدرس بكلية دار العلوم جامعة القاهرة، قسم النحو والصرف والعروض