التفلسف والتنمية الثقافية
التفلسف صناعة إنسانية وجدت منذ بدء الخليقة، فلا يوجد إنسان لا يستخدم عقله، فالإنسان مخلوق عاقل يقوم بمجموعة من العمليات العقلية في حل ما يواجهه من مشكلات حياتية بمختلف أشكالها وألوانها، مثل حل مشكلة ما أو ترجيح القيام بأمر ما دون الأمر الآخر، وغيرها الكثير مما يواجه الإنسان في حياته الاجتماعية، والدينية، والثقافية، والمهنية.. إلخ، وبالتالي فالعقل سمة مركزية للإنسان، وبما أن التعقل هو فعل التفلسف فكل إنسان هو في حقيقة الأمر إنسان متفلسف يمارس الفلسفة كنشاط حياتي طبيعي، وإذا فقد التفلسف فإنه سيفقد بالضرورة أهم سمة يتسم بها، ألا وهي التعقل بشكل عام والتفكير المنطقي بشكل خاص.
ولكن يتفاوت الإحكام العقلي والمعايشة العقلانية من إنسان لآخر بحكم الاختلافات الثقافية والفكرية والتعليمية التي يكتسبها، هذا فضلا عن الخبرات والتجارب العملية التي يمر بها، فطريقة تفكير الإنسان البسيط تختلف بكل تأكيد عن طريقة تفكير العالِم والمفكر، وطريقة تفكير الإنسان في مرحلة الطفولة تختلف كذلك عن طريقة تفكيره في مرحلة الشباب واكتمال النضج العقلي، فالأولى بسيطة يقتصر استخدامها على المعاملات الحياتية، أما الثانية فتكون منطقية ومنظمة من الناحية الاستدلالية.
علاقة التفلسف بالفعل الإنساني
وبالتالي، فعلاقة التفلسف بالفعل الإنساني علاقة وثيقة وضرورية في الوقت ذاته. فهي أشبه بعلاقة العقل بالنسبة للجسد، فلا يستطيع الإنسان أن يعيش دون عقل يحكم السيطرة على أفعال الجسد.
فمن شأن التعقل أن يجعل لدى الإنسان القدرة على التطوير الذاتي، هذا فضلا عن تحريره من مختلف ألوان الدوجماطيقية التي تحيط به بل وتكبله وتعيق تفكيره، فمن شأن التعقل أن يفكك تلك الأنساق ليكشف النقاب عن السمين من الغث، والتفرقة بين المتن والهامش، والفصل بين الأساسي والثانوي.. إلخ.
وذلك من أجل استيعاب كل منهم بشكل صحيح كل في موقعه وفي سياقه وزمانه ومكانه.. إلخ، استيعاب يعمل على الفصل بينهما دون أن يأخذ الغث والهامش والثانوي مكان أو دور أو أهمية السمين والمتن والأساسي.
فإذا ما تم إدراك تلك التفرقة وتوفرت القدرة الإرادية على القيام بها وتهيأ السياق على ممارستها لأصبح الانفتاح على الآخر والتسامح معه من البديهيات العقلية لدى كل إنسان.
التنمية الثقافية ضرورة حداثية
ونستنتج من هذا أنه إذا كان التفلسف ضرورة إنسانية فهذا يقودنا إلى القول – إن جاز لنا التعبير – أن التنمية الثقافية ضرورة حداثية.
فالثقافة هي البناء النظري الذي تبني عليه الأمم حضارتها، ومن الطبيعي أن تختلف الثقافات باختلاف الحضارات، ومن غير المعقول استحضار حضارة أمة من الأمم السابقة، لأنها مرتبطة بحيز مكاني وزماني محدد، إلا أن هذا لا يمنع من استحضار ثقافتها والاستفادة منها لتساهم بشكل أو بآخر في تطوير ثقافات وحضارات أخرى، والاستحضار هنا يكون بشقيه الإيجابي أو السلبي أو الإثنين معا.
فيقصد بالاستحضار الإيجابي نقل ما يتلاءم منها إلى ثقافات أخرى، أما الاستحضار السلبي فيقصد به نقد تلك الثقافات والبعد عما هو فاسد والإبقاء فحسب عما هو نافع، فكثيرا ما تكون مفيدة من خلال نقدها ومحاولة إيجاد بدائل إيجابية لها.
كما أن هناك حاجة ملحة للتنمية الثقافية المحلية المرتبطة بالحيز المكاني واللحظة الزمنية التي نعيشها، ومن أجل تنميتها لابد من إثارتها لنجعلها تكشف النقاب عن نفسها، وأن نستنطق مفرداتها لتكون مشاعة ليس بين الطبقة المثقفة فحسب بل لتكون مشاعة لدى الإنسان العادي ورجل الشارع على حد سواء.
كما أن الحضور الثقافي عند النشء والذي يتلقاه من عدة مصادر أبرزها: المحيط الاجتماعي، أو المراحل الدراسية المختلفة، أو الوسائل التكنولوجية، أو.. إلخ، فعندما يكون الإنسان مزودا بالتعقل والحس النقدي فهذا من شأنه أن يُكوِّن لديه جهازا مناعيا قويا يتصدى لكثير من الأمراض التي قد تصيبه عند تلقيه مختلف الثقافات خاصة في ظل الانفتاح التكنولوجي الذي نعيشه في لحظتنا الراهنة.
كيف يمكن للحراك الثقافي أن يتحقق؟
فلا غراوة أن الحراك الثقافي المستمر والمتواصل والمتجدد من قبل المؤسسات والأفراد لهو ضرورة حداثية في المقام الأول، ولتحقيق الحراك الثقافي يجب أن تتكاتف مختلف المؤسسات والأفراد، فلا وجود لمؤسسات دون مثقفين يحملون مشعل التنوير على أكتافهم ويمارسون نشاطهم الثقافي، فعلى المؤسسات الثقافية والتعليمية أن تتبنى فكرة التنمية الثقافية، والتي من شأنها أن تحقق الحراك الثقافي الذي ينعكس بالنفع التنويري للفرد والمجتمع.
فهناك من المثقفين من ينشر الثقافة في المجتمع بشكل فردي وبدافع شخصي تنويري من خلال الكتابة بمختلف أشكالها وألوانها وصورها، وهؤلاء المثقفون يحركهم شعور واحد مشترك ألا وهو أن الثقافة ضرورة عقلية، لأنها غذاء العقل والوجدان والفكر، فإذا لم يُقدَّم للعقل الغذاء الدسم والمليء بالفيتامينات الإبستمولوجية المختلفة سيفقد بكل تأكيد القدرة على تنمية ذاته، ولن يتمكن من استيعاب كافة المتغيرات التي يجدها في مختلف السياقات المتنوعة والمختلفة التي يعيش في كنفها.
فمن شأن التنمية الثقافية أن تساعد على نضج العقل بعد أن عاش مرحلة طفولة فكرية وخضع لرؤى راديكالية صارمة لا تقبل الرأي والرأي الآخر بل كان الاحتكار والانغلاق الفكري أهم ما اتسما بهما، فنتج نوع من التطرف في الأفكار، ذلك التطرف الذي لا يمكن القضاء عليه إلا بالتعقل والتنمية الثقافية والفكرية، وإخضاع ذلك لجهاز علمي منطقي، وهو ما ينعكس على المجتمع بالرقي والتقدم وتقبل الآخر.