العقل ومدارس الفلسفة الإسلامية.. الجزء الخامس والستون
المدرسة المشَّائية: (63) إخوان الصفا وكتابهم "رسائل إخوان الصفا": ميتافيزيقا العلوم [19]: التطورُ الموجَّهُ بالحكمةِ الإلهية (4): تراتب الموجودات: من الإنسان الحيواني إلى الإنسان الملائكي
تحدثنا –صديقي القارئ صديقتي القارئة– في الدردشة السابقة، (ج 64) عن إخوان الصفا: وكتابهم “رسائل إخوان الصفا”: ميتافيزيقا العلوم [18]: التطورُ الموجَّهُ بالحكمةِ الإلهية (3): تراتب الموجودات: من النبات إلى الحيوان.
ولنواصل –في هذه الدردشة– مقاربتَنا التأويليةَ: إخوان الصفا وكتابهم: “رسائل إخوان الصفا”.
التطور في الإنسان
ثم يصل إخوان الصفا –في وصفهم لمراحل ورتب ونظام الكائنات– إلى أعلى الموجودات وقمة نظامهم التطوري: الإنسان، الذي يمكن أن يكون في نظامه التراتبي التطوري: “إنسانًا حيوانيًا”، الصورة صورة إنسان والنفس نفس حيوان، أو إنسانًا ملائكيًا، وفي ذلك يقول إخوان الصفا: “آخر مرتبة الحيوانية متصل بأول مرتبة الإنسانية، وآخر مرتبة الإنسانية متصل بأول مرتبة الملائكة”.
أدون رُتب الإنسان مما يلي رتبة الحيوان: “الإنسان الحيواني”
ليس كل إنسان هو إنسان بالفعل، بل يمكن أن يكون في مرتبة لا ترتقي عن رتبة الحيوان ويكون نظامه الوجودي قابعًا في قاع في مرتبة الحيوانية، يقول إخوان الصفا: “وإذ قد فرغنا من ذكر مَراتِب الحيوانية مما يلي مرتبة الإنسانية، فينبغي أن نذكر أولًا المرتبة الإنسانية مما يلي الحيوانية.
“اعلم يا أخي بأن أوَّل مرتبة الإنسانية التي تلي مرتبة الحيوانية هي مرتبةُ الذين لا يعلمون من الأمور إلا المحسوسات، ولا يعرفون من العلوم إلا الجِسمانيات، ولا يطلبون إلا إصلاح الأجساد، ولا يرغبون إلا في رُتَب الدنيا، ولا يتمنون إلا الخلود فيها، مع علمهم بأنه لا سبيل لهم إلى ذلك، ولا يشتهون من اللذات إلا الأكل والشرب مثل البهائم، ولا يتنافسون إلا في الجماع والنكاح كالخنازير والحمير، ولا يحرصون إلا على جمع الذخائر من متاع الحياة الدنيا، ويجمعون ما لا يحتاجون إليه كالنمل، ويحبون ما لا ينتفعون به كالعَقعَق (نوع من الغربان)، ولا يعرفون من الزينة إلا أصباغ اللباس كالطواويس، ويتهارشون (يتقاتلون) على حطام الدنيا كالكلاب على الجيف، فهؤلاء، وإن كانت صورهم الجسدانية صورةَ الإنسان، فإن أفعال نفوسهم أفعال النفوس الحيوانية والنباتية، فأعيذك أيها الأخُ البار الرحيم أن تكون منهم أو مِثلهم، وإيانا وجميع إخواننا حيثُ كانوا في البلاد”.
أعلى رُتب الإنسان التي تلي رُتبة الملائكة: الإنسان الملائكي
يقول إخوان الصفا واصفين هذه المرتبة من الإنسانية التي يعدونها رتبة الإنسانية الحقة، التي يفارق عندها الإنسان حيوانيته ليترقى إلى الإنسانية: من الإنسان المَلَك بالقوة إلى الإنسان المَلَك بالفعل: “وأما رتبةُ الإنسانيةِ التي تلي رتبة الملائكة فهو أن يجتهد الإنسان ويترك كل عمل وخُلق مذموم قد اعتاده من الصبا، ويكتسب أضداده من الأخلاق الجميلة الحميدة، ويعمل عملًا صالحًا، ويتعلم علومًا حقيقية، ويعتقد آراءَ صحيحةً، حتى يكون إنسانَ خيْرٍ فاضلًا وتصير نفسه مَلَكا بالقوة. فإذا فارقت جسدها عند الموت صارت مَلَكًا بالفعل وعُرج بها إلى مَلَكُوت السماء ودخلت في زُمرة (جماعة) الملائكة، ولقيت ربها بالتحية والسلام، كما ذكر الله، جل ثناؤه: “تحيتهم يوم يلقونه سلامٌ” وقال تعالى: “الذين تتوفاهم الملائكةُ طيبين يقولون: سلامٌ عليكم، ادخلوا الجنةَ بما كنتم تعملون”. فلا راحة للنفس بمقارنتها للبدن، فموت الجسد ولادة النفس، والموت حكمة ورحمة.
الإنسان: ذلك العالم الصغير
ثم يختم إخوان الصفا رؤيتهم التطورية إلى الوجود، إذ يعدون الإنسان مختصر العالم الكبير فهو العالم الصغير، مرآة تعكس صورة العالم الكبير، قائلين: “وبالجملة ما من حيوان ولا معادن ولا نبات ولا رُكن ولا فلك ولا كوكب ولا برج ولا موجود من الموجودات له خاصية إلا وهي توجد في الإنسان، أو مثالاتها كم بينا قبلُ من كل شيء طرفًا. وهذه الأشياء التي ذكرناها في أمر الإنسان لا توجد في شيء من أنواع الموجودات التي في هذا العالم إلا في الإنسان. من أجل ذلك قالتِ الحكماءُ إن الإنسان وَحَده بعد كل كثرة، كما أن الباري، جل ثناؤه، وحده قبل كل كثرة. ومن أجل ما عددنا من عجائب تركيب جسد الإنسان، وغرائب تصاريف نفسه، وما يظهر من جملة بِنيَته من الصنائع والعلوم والأخلاق والآراء والمذاهب والأعمال والأفعال والأقاويل والتأثيرات الجسمانية والروحانية، سمّوه عَالَمًا صغيرًا”.
هذه خاتمة التطور في الطبيعة التي أوتادها المعادن، وهي مكونة من العناصر الأربعة، ومنها يتكون النبات مع زيادة التغذي والنمو، ويشارك الحيوان النبات، ويزيد عليه الحركة والحس، والإنسان يشارك النبات والحيوان ويزيد عليها النطق وكل زيادة انفصال وكسر في خط التطور، وهو ما يسميه الفيلسوف الفرنسي برجسون “التطور الخالق” في الفلسفة الغربية، كما يقول حسن حنفي.
خلاصة تأويلية:
أولًا: التطور: وَحْدَةُ الكائناتِ وتطورها من هيولى واحدٍ لتدلَ على صانعٍ أَحَدٍ
عند إخوان الصفا فإن “أصل الكائنات هيولى واحد، وخالف الله بينها بالصور المختلفة، وجعلها أجناسًا وأنواعًا مختلفة، متفننة، متباينة، وقوى بين أطرافها، وربط أوائلها وأواخرها بما قبلها رباطًا واحدًا على ترتيب ونظام، لما فيه من إتقان الحكمة وإحكام الصنعة، لتكون الموجودات كلها عالمًا واحدًا منتظمًا، منتظمًا نظامًا واحدًا، وترتيبًا واحدًا، لتدل على صانع واحد، قال إخوان الصفا، في الرسالة الحادية والعشرين من رسائلهم: “واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروحٍ منه، بأن الباري جلّ ثناؤه، لما أبدع الموجوداتِ واخترع الكائناتِ، جعل أصلَها كلَّها من هيولى (مادة) واحدة، وخالفَ بينها بالصُور المختلفة، وجعلها أجناسًا وأنواعًا مختلفة مُتفنَّنة مُتباينة، وقوَّى ما بين أطرافها، وربط أوائِلها وأواخرَها بما قبلها رباطًا واحدًا على ترتيبٍ ونظامٍ لما فيه من إتقان الحِكمة وإحكام الصنّعة، لتكون الموجوداتُ كلُّها عالمًا واحِدًا منتظِمًا نظامًا واحدًا وترتيبًا واحدًا، لتدُلَّ على صانعٍ أحد”.
ثانيًا: التطور: توجيه إلهي حكيم
والهدف من دراسة التطور يحدده إخوان الصفا في قولهم: “إن الحكمة الإلهية لم تعطِ الحيوانَ عضوًا لا يحتاج إليه في وقت جرِ المنفعة أو دفعِ المضرة، لأنه لو أعطاها ما لا تحتاج إليه لكان وبالًا عليها في حفظها وبقائها”.
وإخوان الصفا –على حد تعبير إسماعيل مظهر– يسمون “حكمةً إلهيةً” ما يسميه دارون “انتخابًا طبيعيًا”، اختلفت بينهما الأسماءُ، وتشابهتْ نتائجُ المؤثرات.
ثالثًا: التطور: الغائية لا المصادفة ولا العشوائية
والتطور لدى إخوان الصفا ينشد غايةً وهدفًا، ليس تطورًا عشوائيًا، بل هو: “كون ونشوء غاية أولًا وابتداءً، وله غايةٌ ونهايةٌ إليها يرتقي، ولغايتها ثمرةٌ تجتنى”. “والموجودات الجزئية دائمة في الكون متوجهة نحو التمام، لأنها تبتدئ بالكون من أنقص الوجود متوجهة إلى أتم الوجود، ومن أدون الأحوال مترقية إلى أشرفها وأتمها”. “تبتدئ (الكائنات) من أنقص الحالات وأدونها إلى أتمها وأفضلها، ويكون ذلك في مر الأزمان والأوقات”.
رابعًا: التطور: استكمال الرؤية الرياضية إلى الوجود
أتم إخوان الصفا بنظريتهم في التطور رؤيتهم الرياضية إلى الوجود: الله والإنسان والعالم. العدد والهندسة والفلك والموسيقى والجغرافيا والتطور. وهذه الرؤية أعطتهم رحابةً إنسانيةً واسعةً، فكانوا –كما أقترحُ– مشروعًا إنسانيًا لا فرق فيه بين الفرق. وكانوا –كما أقترحُ أيضًا– أصحابَ تأليفٍ علمي موسوعي لا مذهبي. قدموا رؤيةً كونيةً إلى الوجود مبنيةً على منجزات العلوم، مقترحين –للمرة الأولى– التعاونَ الفلسفي والعلمي بين البشر. وكان إمامُهم العقلَ وقوةَ واضعِ الشرع. وكان غرضُهم من العلوم: التحقق بالميتافيزيقا لخير البشر، البشر كلهم، وطالبوا أن يبدأ الناسُ بعلم العدد وعدوه علمًا عالميًا منه يبتدئ طلبُ الحكمة والفلسفة، لأن العدد –عند إخوان الصفا– مبدأ معرفة الإنسان نفسه وربه الواحد الأحد.
وهم –كغيرهم من الفلاسفة– غير معصومين عن الخطأ ففي كثير من الأحيان يخالفون البرهان ويحولون العلم إلى خرافة وسحر وأساطير، خصوصًا قولهم بخرافات التنجيم خروجًا عن البرهان والقرآن، لكن ذلك كله قطرات خطأ تذوب في بحر صوابهم، وحسبهم اجتهادهم. ودورنا البناء على صوابهم، والتنبيه على تجنب أباطيلهم وخرافاتهم.
في الدردشة القادمة –بإذن الله– نبدأ رحلتنا التأويلية، مع فيلسوف آخر من فلاسفة المدرسة المشائية، في القرن الرابع الهجري: أبو سليمان السجستاني: الفيلسوف ومؤرخ الفلسفة، وكتابه: “صوان الحكمة”.
مقالات ذات صلة:
الجزء الواحد والستون من المقال
الجزء الثاني والستون من المقال
الجزء الثالث والستون من المقال
الجزء الرابع والستون من المقال
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا