التربية العربية والمنظومة القيمية الغائبة
التربية في كل المجتمعات الإنسانية تستهدف بناء الإنسان بناء شاملا متكاملا، كي ترقى به ليكون عضوا فعالا في مجتمعه البشري يؤدي مهامه التي كلف بها في إطار المشاركة والتعاون والتناغم والتحاور والتفاهم. تحولت التربية في كثير من مجتمعاتنا العربية من ممارسات فطرية مجتمعية إلى عمل مؤسسي عبر قرون طويلة مثلت تاريخ البشرية الممتد عبر العصور، وغدت التربية في عرف المجتمعات سلاحا فتاكا تحافظ به على هويتها، وتصون ثقافتها وقيمها ومعتقداتها الراسخة والتي تميزها عن غيرها.
وفق هذا المنظور الفلسفي التنظيري يبقى التساؤل الحائر:
هل التربية في بلادنا العربية داعمة للقيم، داعمة للحياة؟!
إن المتأمل بصدق لواقع التربية في بلادنا العربية يدرك أننا نعيش مأساة تربوية غير مسبوقة، إذ غدا النسق القيمي التربوي ضحية إهمال مشترك بين الأسرة ومؤسسات التربية ووسائل الإعلام ووسائط التقنيات الحديثة ومستجدات الانفتاح غير المحسوب على الآخر.
فالأسرة لم تعد حصن الأمان الذي يحتوي الأبناء ويمثل لهم بيئة خصبة للنمو القيمي السليم، فغدت كثير من الأسر في هذا الزمن تئن تحت وطأة الأزمات وغياب الرقابة وتضارب المصالح، ففقدت القدرة على التوجيه التربوي السليم.
ومؤسسات التربية الرسمية حدث ولا حرج، فالتعليم في أغلب مجتمعاتنا العربية يعاني على المستوى القيمي، إذ فقدت المدرسة هيبتها، ولم يعد لها الدور الذي هو أساس التربية القيمية، فهجرها الطلاب إلى قاعات الدروس الخصوصية، وغدا التعليم تجارة رائجة لتجار التعليم الذين يدوسون القيم بنعالهم ليل نهار دون مراقبة أو مساءلة أو محاسبة!
وسائل الإعلام ووسائط التقنيات الحديثة
ووسائل الإعلام هي الأخرى شريك رئيس في تدهور منظومة القيم في مجتمعاتنا العربية ، إذ غدا التوجه الرأسمالي الجشع عشقها الأول، فالمسلسلات والأفلام وكل البرامج تقريبا غدت ملاذا آمنا لنماذج بشرية مثيرة للجدل، ولكنها محققة لنسب عالية من المشاهدة، كمطرب المهرجانات فلان، والنجم الأسطوري فلان، والمغنية المبهرة فلانة، والراقصة الخلابة الساحرة فلانة.
وخطورة وسائل الإعلام أنها ضيف مقيم في كل بيت وتمتلك قدرة ساحرة على إعادة تشكيل المنظور القيمي الجمعي للمجتمع وهنا مكمن الخطورة. ووسائط التقنيات الحديثة هي الأخرى غدت وبالا على كافة المجتمعات عامة، فالتقنيات مثل الهواتف المحمولة، والوسائط التفاعلية الحديثة كفيس بوك، ويوتيوب، و تويتر، وسناب شات، وإيمو وغيرها غدت وسائطا سهلة للانحراف القيمي والأخلاقي في ظل غياب دور الأسرة، وغياب الوازع الذاتي الذي هو في الأساس قد انهار تحت وطأة انهيار منظومة القيم.
وأخيرا يأتي الانفتاح غير المحسوب على الآخر وتحت شعار الحرية تفنن البعض في انتهاك القيم ومخالفة الأعراف والتقاليد المجتمعية السائدة، وغدا مقلدا أعمى للآخر مغيبا عقله ومنحيا لإرادته وقراره جانبا!
تحت وطأة هذا الواقع المرير انهارت المنظومة القيمية في مجتمعاتنا العربية ، إذ انهار التعليم وتحول الهدف منه إلى مجرد وسيلة فقط للحصول على شهادة في نهاية الأمر.
وكي نعيد للمجتمع زخمه القيمي يجب علينا أن نلجأ إلى مجموعة من الممارسات السريعة العاجلة أهمها:
– إعادة دور الأسرة إلى النور، حيث مهام المساءلة والمحاسبة والمراقبة ودعم المنظومة القيمية الراسخة.
– إعادة الاعتبار لمؤسسات التربية العربية عبر إصلاح تعليمي شامل وممنهج يعيد للمدرسة هيبتها الضائعة، ويعيد للتعليم رونقه القديم والذي غاب عنا في غفلة من الزمن.
– إعادة وسائل الإعلام إلى جادة الصواب، فهي وسائل لصيانة الهوية ونشر القيم والفضائل ودعم الانتماء والولاء للوطن العربي الغالي.
– المراقبة الشديدة والصارمة على استخدام التقنيات الحديثة في إطار الحوار الأسري النقدي الهادف بعيدا عن التعصب والتشدد والصراع غير مأمون العواقب.
– دعم ثقافة الحوار والانفتاح العقلاني على الآخر في ضوء مبدأ الانتقاء الثقافي الذي يدعم تقبل ثقافة الآخر الإيجابية ويبتعد تماما عن نماذجها السلبية.
إن العودة إلى إرساء القيم مهمة شاقة تحتاج تضافر كافة الجهود، وهي مهمة عاجلة لا يجب أن نتأخر في إنجازها وإلا ندمنا وبكينا وقت لا ينفع الندم ولا يجدي البكاء على اللبن المسكوب.