التخصص والإفقار الممنهج .. الجزء الأول
من الأقوال المأثورة لدى أهل التأويل المحدثين قولهم: “إن المعنى لا يدرك حافيًا”، بمعنى أن المعنى الذي يحصله المرء من فعل دلالي، مثل: “النص المكتوب، الصورة المرئية، الحادثة الواقعة، القضية المدروسة”– إنما هو نتيجة إسقاط قراءة معينة، بغض الطرف عن كون القراءة نتيجة توقع أم نتيجة فرضية، وسأوضح الفرق بينهما لاحقًا، يعد المحلل هذه القراءة قادرةً على استخلاص الدلالة من فعل الإدلاء، بعبارة أخرى أكثر توضيحًا: إن العين لا تدرك من الواقع إلا ما تسمح لها به زاوية النظر التي تتخذها تلك العين، والعقل لا يأخذ مما تراه العين إلا بقدر ما تأخذ العين مما تراه في الواقع، والقلب لا يأخذ من العقل إلا الأقل، كأن ما يستقر في قناعة المرء منا يمر بمراحل ثلاث: الأولى العين، والثانية العقل، والثالثة القلب، الأمر الذي يجعل المرء دائمًا مسائلًا لما هو مستقر في تلك القناعات مُقلّبا له على وجوهه كلها، تلك المساءلة إنما تتحقق بأن يأخذ المرء من الواقع –معرفيًا– أكثر من زاوية بغية تحقيق معرفة أشمل به، إذ إنه بقدر ما تتعدد الزوايا يكون ثراء المعرفة واتساعها، هذا من ناحية العين، ومن ناحية العقل فالمرء حتى يدرك الواقع في ثرائه لا بد أن يكون حائزًا لأكثر من عقل، لذا كانوا ينصحون قديمًا وحديثًا بأن يتعلم المرء أكثر من علم، لأن كل علم جديد يكسب صاحبه عقلًا جديدًا يفكر به، ومن ناحية القلب يلزم المرء أن يكون محاسبًا لنفسه، وما يدخل قلبه دائمًا، عارضًا نفسَه على كلام الله ورسوله والصالحين، حتى يظل القلب الحارس الأمين على ذلك الكيان (الباحث).
فإذا ما اتسعت مدارك الباحث بتعدد زوايا نظره ومعارفه أدرك أنه صاحب زاوية من زوايا النظر المتعددة للموضوع محل البحث والتفسير، الأمر الذي يجعله أكثر مرونة وعمقًا في نظره وتعامله مع قراءته المقترحة في تفسير العمل المطروح، بل وفي نظره للآخرين وبالأخص المختلفين معه.
فالمرء منا يعالج الظواهر التي لا تنفك تعرض عليه –سواء أكانت معرفية علمية بحتة أم كانت معيشية حياتية– بأمرين، الأول: التوقع: ذلك الذي يعكس معرفة سابقة، بمعنى أننا ما إن تُعرض على المرء منا الظاهرةُ أو الواقعةُ المعينة يُسارع إلى إدراجها ضمن نسق معين ونموذج محدد سلفًا، الثاني: الافتراض: وذلك يكون مع الظواهر أو الحالات التي تحوي قدرًا من الشذوذ أو الانحراف الذي يخالف توقعي (نموذجي)، فلا سبيل لي مع هذا الشذوذ أو الانحراف إلا الافتراض الذي أسعى به إلى توسيع توقعاتي لاحتواء ذلك الشذوذ، وإذا كان التوقع يعكس ما لدى الباحث من معرفة سابقة ونموذج مستقر في عقله، فإن الافتراض يعكس ما لدى الباحث من ثقافة موسوعية تجعل أفق الباحث واسعًا قادرًا على الابتكار الذي يمكنه من احتواء الانحراف والشذوذ.
المعنى المبحوث عنه
إن الفكرة التي تجعلني أرى في التخصص المنعزل في مسائله والمنشغل بقضاياه ضربًا من الإفقار الممنهج– حقيقةُ فهمي للمعنى من ناحية ولعملية الفهم والتأويل من ناحية أخرى.
أما المعنى فقد فهمه أناس أنه الكلمة التي يقولها المتخصص خضوعًا لنظريته وما يحكمها من نماذج وتصورات، أي أنه فكري أكثر منه واقعيًا، يستند إلى مفهوم المعنى داخل النموذج أو النظرية التي يتبعها في التقاط هذا المعنى، وهو مفهوم معد سلفًا استخلاصًا من أمثلة متعددة، وعليه فتصور المعنى يكاد يكون منفصلًا عن تشكلاته أو تجلياته التي يظهر بها.
وفهمه آخرون أنه الكلمة التي ينطق بها الواقع ويحكم بها السياق حتى لو عارضت مقولات النظرية وتصوراتها، فهو واقعي أكثر منه فكريًا، في حين أن المعنى الذي نسعى إلى التقاطه بقراءة الظواهر ودرس المسائل تلك التي تشكل موضوع البحث أيًا كان مجال ذلك البحث– إنما هو نتيجة أمرين:
الأول: التخصصُ المعين أو النموذج أو النظرية التي ينطلق منها الباحث في تعامله مع موضوع النظر. الثاني: معارفنا المتنوعة بشأن هذا الموضوع وما يحيط به من ملابسات.
فالمعنى الذي نبحث عنه قسمة مشتركة بين نظرية تُؤسّس وسياقات محدّدة تُوجّه، وإذا كان الأمر الأول في حوزة المتخصص فإن الثاني يندّ عنها، إذ إن الكلمة فيه مشتركة بين تخصصات عدة، الذي يأخذ بكلمة النظرية غير ملتفت للسياق قد انتهى إلى معنى عام معد سلفًا لا يخص القائل أكثر مما يخص المستخلِص للنظرية، ومن ثم لن يسهم في حل المشكل بالقدر الكافي، أما الذي يسلم نفسه للسياق دون عاصم من نظرية ومنهج ستهوي به الريح في مكان سحيق، لكن الذي يجمع بين المعرفة التي تمكنه من فهم أثر حيثيات السياق في توجيه المعنى وما تقوله النظرية لتكون الأخيرة منطلقًا للأولى– هو الذي اقترب من الإنصاف في تعامله مع المعنى، ودخول البعد السياقي –بما له من حمولة معرفية تتوزع على تخصصات عدة– هو الذي يحتم فتح الظاهرة الدلالية أيًا كان موضوعها على التخصصات المختلفة بغية الوصول إلى معرفة عميقة عنها، الأمر الذي يجعلنا نعد هذا المعنى الذي نسعى إلى التقاطه بناءً يُبنى أكثر من كونه معنى جاهزًا قارًا داخل موضوع النظر.
هذه النقطة الأخيرة في غاية الأهمية لحل كثير من مشكلاتنا، تلك التي تصورنا حلها في تطبيق نموذج مستجلب من الآخر أو من الماضي، فالقضية ليست في تطبيق هذا المعنى أو ذاك بقدر ما هي في إعادة إنتاج المعنى في ضوء المستجدات والظروف التي تخص حاضرنا، فمشكلتنا ليست في التطبيق لكنها في إعادة إنتاج ما نبغي تطبيقه.
أما عملية الفهم والتأويل فهي عملية دائرية، بمعنى أنك تفهم الجزء في ضوء فهمك للكل وتفهم الكل في ضوء فهمك للأجزاء، وعليه فإن انغلاق المرء داخل فهمه للكل وعلاقته بالأجزاء إنما يعني انغلاقه على توقعاته وانسداد الأفق في وجه فرضياته، والصواب أن لا يكف الواحد منا عن استيعاب المعارف الجديدة وزوايا النظر المختلفة بغية تطوير توقعاتك وإثراء فرضياتك، إن معنى كونك تعرف –في ظل هذا الانفتاح المعرفي والجغرافي والثقافي الذي أحدثته الثورة المعلوماتية ويشهده عالمنا– ليس أن تكون مستوعبًا لمنظور واحد أو رؤية واحدة، لكن أن تستجيب معرفيًا لمختلف الرؤى والمنظورات وأن تطرح مختلف الأسئلة التي تخدم المصالح كافة، وتحاول أن توازن بينها في ضوء الغايات والسياقات التي يحتمها علينا فضاؤنا وما يواجهنا فيه من مشكلات.
يتبع…
مقالات ذات صلة:
النظريات الفلسفية في ماهية اللون
أحجار جورجيا الإرشادية ونظرية المؤامرة
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا