علم نفس وأخلاق - مقالاتمقالات

أن تكون إنسانا.. ماذا يعني؟! – الجزء الرابع

إذا كان التزام المرء منا بالسمات الأخلاقية -التي أشرنا إليها في المقالات الثلاثة السابقة- في تعامله مع الآخرين كفرد يمنحه صفة الإنسانية، فإن إنسانيته لن تكتمل ما لم تسد هذه السمات سلوكه عندما يتصرف كعضو منتمٍ لمؤسسة أو جماعة مع الأفراد والجماعات والمؤسسات والمجتمعات التي يتعامل معها،

ذلك لأن إنسانية المرء منا لن تكتمل إلا إذا سادت مبادئ العدالة أيضًا سلوكه في الشق الآخر من حياته، والذي لا يتعامل فيه مع الوجود من حوله باعتباره كيانًا مستقلًا يفعل ما يحقق مصالحة المباشرة، وإنما باعتباره عضوًا يسعى لتحقيق أهداف مؤسسة أو جماعة ما ينتمي إليها،

ومهما كان موقعه فيها رئيسا أو مرؤوسا فهو لن يعدو هنا إلا أن يكون لبنة تضطلع بدور مرسوم سلفًا في تحقيق الغاية التي من أجلها هذه المؤسسة أو الجماعة قد وجدت، وهنا لن يتسنى لإنسانيته أن تكتمل إلا إذا تحلى سلوكه داخل هذه المؤسسة أو الجماعة التي ينتمي إليها بمبادئ العدالة سالفة الذكر.

كيف يتحلى الإنسان بالعدالة داخل المؤسسة أو الجماعة التي ينتمي إليها؟

وهنا يثور تساؤل، كيف؟

الإجابة.. إن إنسانيته لا بد أن تفرض عليه أن يتعامل مع باقي أعضاء المؤسسة أو الجماعة التي ينتمي إليها بمعايير العدالة (في الفعل أو القول أو الشعور). فلا يحابي أحدًا على حساب أحد، ولا يمنح أحدًا عطاءً دونما وجه حق، أو يمنع عن أحد عطاءً مستحقًا، حتى ولو كانت كلمة ثناء بسيطة.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

كما تفرض عليه إنسانيته أن يتعامل مع المؤسسة أو الجماعة التي ينتمي إليها تعاملًا عادلًا، وهو ما يتجلى في تساوي الجهد الذي يبذله مع المقابل الذي يحصل عليه منها، فلا يستحل أن يحصل على فلس واحد لا يستحقه من أموال هذه  المؤسسة بغير وجه حق.

كما يفرض عليه أن يطور باستمرار قدراته المعرفية والمهارية، التي تمكنه من الاضطلاع بالمهام التي ارتضى أن يُكلف بها داخل المؤسسة التي ينتمي إليها على النحو الأمثل، ذلك لأن تدني معارفه ومهاراته عن المستوى الذي يؤهله لإتقان عمله بما لا يُمكّن مؤسسته من الاستمرار في المنافسة المحمومة مع المؤسسات الخارجية المناظرة،

يعني أنه قد يُعرض قدرة هذه المؤسسة التنافسية إلى التآكل تدريجيًّا، وإذا ما تآكلت هذه القدرة تدريجيًّا، فإن ذلك سيعرضها للفشل وربما للإفلاس ثم الزوال.

ولا مراء أن حدوث ذلك يحمل ظلما جليا ليس للمؤسسة وحدها، وإنما للمجتمع الذي ينتمي إليه بأسره، ذلك لأن أي مجتمع تتراجع قدرات مؤسساته على التنافس بين مجتمعات الدنيا سوف تتراجع –تدريجيا– فرصته في تأمين مقومات الوجود الرئيسة لأبنائه،

وإذا ما تراكم ذلكم التراجع فقد يضطر هذا المجتمع أن يعتمد في توفير تلكم الحاجات الرئيسة لأبنائه على القروض الخارجية، والدخول في حلقة جهنمية من القروض المتراكمة التي تؤدي به –حتمًا– لأن يصبح فريسة في براثن الدول الدائنة، مما يؤول به كبناء مجتمعي  صاحب سيادة واستقلال إلى التفكك والزوال.

التعامل مع الآخر داخل المؤسسة

كما تفرض عليه إنسانيته أن يحث الأفراد (اللبنات الأخرى في المؤسسة التي ينتمي إليها) أو أقسام المؤسسة، أو هذه المؤسسة ككل (ممثلة في قيادتها) على تحري العدالة في سلوكهم مع بعضهم البعض، ومع المؤسسة ككل، وفي سلوكهم مع عملائها، ومع منافسيها، بل ومع أعدائها، ما وجد إلى ذلكم سبيلا. فغياب سيادة العدالة لسلوك أعضاء مؤسسة أو جماعة ما يُؤذن بتفككها وانهيارها.

كما تفرض عليه إنسانيته إذا ما احتل موقعًا ذا صلة بتعامل المؤسسة مع الأفراد، أو المؤسسات، أو المجتمعات التي تستفيد مما تقدمه هذه المؤسسة من خدمات، أو منتجات، أن يبني ذلكم التعامل مع هؤلاء على أسس العدالة، لا على أسس إعلاء مصلحة المؤسسة على حساب مصالحهم، أو تنفيذًا لأوامر ورغبات أصحاب القرار فيها،

لأن سعي المؤسسة لتحقيق مصالحها على حساب مصالح الآخرين، سيخلق –على المدى البعيد– مجتمعًا مختلًا ينقسم إلى قلة تحوز المال والسلطان، من أصحاب وقادة هذه المؤسسات، وكثرة لا تجد إلا الكفاف، ومجتمع هذا حاله لا يمكن أن يحتل مكانة تُذكر بين المجتمعات التي قادتها العدالة السائدة بين أفرادها ومؤسساتها إلى درجات هائلة في مضمار التقدم، هذا إن لم يقع –على المدى البعيد– في براثن التفكك ثم الفناء!

كما تفرض عليه إنسانيته إعلاء قيم العدالة عندما يسعى لتحقيق مصالح الجماعة التي ينتمي إليها (سياسية، اجتماعية، دينية، إلخ)، فلا يبغي على مصالح غيرها من الأفراد، أو الجماعات، أو المؤسسات، كشرط حتمي لضمان استمرارية تماسك هذا المجتمع وتلاحمه، وعدم تفسخه وتحلله على المدى البعيد.

مجتمعات يُكتب لها البقاء

وهكذا، فعلى المرء منا أن يدرك أن ممارسة العدالة التي تمنحه صفة الإنسانية عن جدارة، لا تقف عند تعامله مع الآخرين كذات مستقلة، وإنما تمتد إلى التزامه –عندما يكون عضوًا في مؤسسة أو جماعة– بمعايير العدالة في تعامله مع الآخرين، فالعدالة ينبغي أن تكون كُلًا لا يتجزأ.

وعليه أن يدرك أن حتمية الالتزام بتلكم المعايير لا تقف عند كونها تجعله يصبح جديرًا بأن يوصف بكونه إنسانًا يحمل فطرة سوية، وإنما تمتد إلى كونها تعد الشرط الرئيس لتماسك المجتمع الذي ينتمي إليه، ولتأمين مقومات بقائه، واحتلاله لمكانة تليق به بين مجتمعات الدنيا.

وعليه أن يدرك –أيضا– أن الإخلال في الالتزام بهذه المعايير يعني اختلال بنية مجتمعه هذا، واختلال قدرته –على المدى البعيد– على تأمين مقومات الوجود الرئيسة لأفراده.

ومثل هذا المجتمع لن يكتب له الصمود والبقاء طويلًا، لأن المجتمعات التي تسود روح العدالة سلوك أبنائها هي فقط من يُكتب لها البقاء.

أما عن الآثار التي تترتب على خروجه عن تلك العدالة في حال تعامله مع  الآخرين من حوله، فهذا ما سوف نتناوله في مقالات لاحقة إن شاء الله تعالى.

اقرأ أيضاً:

الجزء الأول من المقال 

الجزء الثاني من المقال

الجزء الثالث من المقال

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

*****************

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د. محمود السماسيري

أستاذ الإعلام المشارك بجامعتي سوهاج بمصر حاليا، واليرموك بالأردن سابقا.