مقالات

خدعوك فقالوا إنّ التجربة خير برهان

بعد أن حالفه الحظ وتمكن من الفوز بأحد المقاعد الخالية في الحافلة المزدحمة، أغمض أشرف عينيه محاولا اقتناص بضعة دقائق من الراحة خلال رحلة العودة الطويلة من مقر عمله، إلا أنّ صوت البائع الجهوري حرمه من هذه الأمنية البسيطة ..

– اشتري الكشاف، الكشاف المعجزة، كشاف ينورلك طريقك، وداعا للضلمة، وداعا للكعبلة على السلم، والسعر مفاجأة، مش هنقول 5 ولا 4 ولا 3 ولا حتى 2جنية، الكشاف بجنية، جنية واحد بس.

نادى أشرف البائع مستفسرا عن مدى جودة بضاعته وهل يعيش هذا المصباح طويلا أم يحين أجله بعد لحظات من بداية حياته …

– على ضمانتي يا أستاذ، لو فيه أي حاجة رجعه لي، طيب حتى جربه كده.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

تناول أشرف أحد المصابيح وأخذ يشعله ويطفئه عدة مرات متتالية، تجاوب المصباح مع هذا الاستعمال القاسي مما أذهب من نفسه مشاعرالشك والريبة. اشترى أشرف مصباحين عازما اهداء أحدهما لأخيه العزيز عادل الذي دعاه اليوم على الغداء.

طك، طك، طك (أصوات دق على باب المنزل)، فتح عادل الباب لأشرف المتعب من صعود السلم للدور الثالث.

عادل: مش كنت تكلمني عشان أبعت لك كشاف بدل ما تطلع السلم في الضلمة.

أشرف: اسكت يا عادل أنا أخدت حتة مقلب النهاردة.

عادل: ليه بس؟!؟!

اضغط على الاعلان لو أعجبك

أشرف: النهاردة كان فيه بياع – منه لله – كان بيبيع كشافات في الأتوبيس فقلت أكيد هحتاج واحد في الظروف دي مع تكرار قطع الكهرباء ولقيته رخيص (بجنيه) فاشتريت اتنين وكنت حتى ناوي أديك واحد هدية. المهم وصلت عندك لقيت الكهرباء مقطوعة قلت الكشاف جه في وقته الحمد لله. جيت أولعه، الكشاف لم ينطق.

عادل: لا حول ولا قوة إلا بالله، النصب والاحتيال بقى في كل حته، بس برضه انت غلطان، بقى فيه كشاف بجنيه؟ أكيد مغشوش.

أشرف: ما أنا كنت خايف من كده، عشان كده جربته أكتر من مرة قبل ما أشتريه، جربته والله جربته، أعمل إيه تاني.

السؤال … هل أخطأ أشرف عندما لجأ للتجربة لاختبار مصباحه؟

قبل أن نجيب عن هذا السؤال يجب أن نحذر من الثنائية الفكرية كنمط خاطئ في التفكير، فليست كل الأمور إما أبيض أو أسود، وأغلب الأسئلة ليست إجاباتها الدقيقة هي “نعم” أو “لا”، بل ربما يكون لها اجابات تحتاج إلى مزيد من التمعن والتدقيق، مثل سؤال أشرف السابق، إجابته ليست بـ”نعم” أو “لا”، بل يجب نوضح أولا ماذا نقصد بالتجربة وما هي حدود مقدرتها على كشف الواقع.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لكي نحكم على الشيء يجب معرفة حقيقته أولا، والتجربة أحد طرق هذه المعرفة، ولكن نقصد هنا التجربة الصحيحة وليس التكرار العشوائي للمشاهدات للظواهر والأحداث. فمثلا عندما نريد أن نحكم على حقيقة .. “هل يطفو الخشب فوق الماء”، لا يكفي أن نضع قطعة من الخشب فوق سطح الماء بضعة مرات لنتأكد من هذه الحقيقة، بل يجب أن يرافق هذه المشاهدات فهم جيد وواضح للسبب الذي أدى لحدوث هذه الظاهرة (الطفو)، ويجب أن نتأكد أن هذا السبب هو ذاتي وأصيل في الشيء وليس عارضا أو مؤقتا. فمثلا هل الخشب يطفو فوق الماء، بعد البحث وجد العلماء أن سبب الطفو هو أن كثافة الماء أعلى من كثافة الخشب فبالتالي يطفو الخشب على سطح الماء، ولكن يوجد هناك أنواع من الخشب كثافتها أعلى من الماء، إذن هذه الأنواع لا تطفو فوقه. إذن بالتجربة الصحيحة التي جمعت بين تكرار المشاهدات والفهم الجيد والواضح لسبب حدوثها نستطيع أن نقول .. “الخشب الذي كثافته أقل من كثافة الماء يطفو فوق سطحه”.

بالمثل هل يكفي حدوث موقف أو موقفين بيني وبين شخص آخر للحكم عليه وعلى أخلاقه؟ هل هذه تجربة صحيحة؟ بالقطع لا؛ فمن أصعب الأمور الحكم على النفوس البشرية، يجب أن نفهم أوّلا هل هذا السلوك السيء الذي بدر من هذا الشخص هو نتيجة خلق سيء متجذر فيه أم هو نتيجة ظروف صعبة مؤقتة يمر بها (سبب عارض مؤقت)، الفهم الجيد والواضح لسبب الظاهرة هو ما يضمن صحة واستمرار النتائج.

إذًن نرجع لسؤالنا الرئيسي، هل توفر لأشرف المعمل المناسب لاختبار مصباحه قبل الشراء، بالقطع لا، فالحافلة المكتظة بالركاب هي معمل مناسب لاختبار شيء واحد فقط، ألا وهو قدرة الفرد على تحمل الزحام وآلام الساقين نتيجة طول الوقوف والظروف الجوية الصعبة ولكن بالقطع ليس جودة المصابيح، لذلك تجربة أشرف للمصباح لا تكفي لإعطاء نتائج قطعية يقينية لأنه لم يفهم حقيقته بل كان لزاما عليه بالإضافة إلى ما فعل أن يفهم حقيقة المصباح عبر السؤال عن الشركة المصنعة وبلد المنشأ وخبرات الآخرين مع مثل هذه النوعية من المصابيح ليصل إلى نتائج بها أعلى قدر ممكن من الثقة.

تبقى نقطة هامة أخيرة لا يجب أن نغفل عنها، وهي أن للتجربة حدود للمعرفة من الخطأ تجاوزها وهو العالم المادي الذي يمكن إدراكه بالحواس الخمس، ولكن عالم الأفكار والمفاهيم الذهنية وعالم ما وراء المادة هو معرفة هامة ولكن له أدوات معرفية أخرى غير التجربة (مثل العقل والنص الديني) لكشفها.

فلمعرفة مفهوم “العدل” مثلا لا نستطيع أن نجرب، فلربما أراد البعض اختبار مفهوم العدل على أنه المساواة، فخصص حصص متساوية من الطعام مثلا لجميع أفراد الأسرة (الأب والأم والابن الصغير)، وجعل معيار نجاح التجربة عبر قياس مدى سعادة أفراد هذه الأسرة، وبالفعل ربما يشعرون في البداية بالسعادة المؤقتة ولكن لاحقا بسبب عدم اعطاء كل فرد حصة الطعام المتناسبة مع احتياجه الطبيعي المتوافق مع جسمه وعمره سيؤدي ذلك إلى أن يعاني الفرد المظلوم من الهزال في حالة نقص الطعام أو من السمنة والتخمة في حالة زيادته. بالعقل نستطيع أن نصل إلى الفهم الصحيح لمفهوم “العدل” وهو “إعطاء كل ذي حق حقه” وليس المساواة. بالتفكير السليم نستطيع الوصول للفهم الصحيح للأفكار والمفاهيم الذهنية.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

كذلك هل نسطيع أن يجرب الإنسان ليصل إلى كيفية عبادة الإله وما هو حقه عليه، كيف يكون ذلك مع عجزنا عن الإحاطة بحقيقة خالقنا، فبالقطع رغم علمنا بقدرته وعظمته إلا أننا لا نستطيع أن نحيط به إحاطة علمية كاملة، فالمعلول لا يحيط بعلته. إذن مع هذا العجز كيف نعرف حقه من العبادة والشكر، بل يجب أن نلجأ للنص الإلهي نفسه لتحديد هذا الحق وكيفية أدائه. إذن هناك أدوات معرفية أخرى مثل العقل والنص الإلهي نحتاجها لكشف المعارف غير المادية وهذا ما يتناوله العلم الهام جدا وهو علم “نظرية المعرفة” الذي يشرح الأدوات المعرفية المختلفة وكيفية استخدامها وحدود ما تستطيع كشفه من معارف.

الخلاصة .. نعم نحتاج التجربة، بل لا غنى لنا عنها، ولكن التجربة الصحيحة المصحوبة بفهم الأسباب والعلل وضمن إطارها المادي المحسوس.

اقرأ أيضاً:

رواية 1984… كيف نصنع بالتفكير واقعاً مغايراً داخل المجتمع

التفكير فى الهجرة

بين الغنى والفقر .. الفقير وحسن التفكير!

أحمد عثمان

باحث ومحاضر بفريق مشروعنا بالعقل نبدأ

مقالات ذات صلة