يظل ما تقوله البيئة المحيطة هو الأهم .. الجزء الرابع
كي نفهم تأثير البيئة المحيطة أكثر، علينا أن نتأمل التجربة التالية: لنحضر جَزَرَة ونقسمها نصفين، ونقوم بوضع النصف الأول في نصف كأس به ماء وسكّر، ونضع النصف الثاني في نصف كأس به ماء وملح، ونترك الكأسين يومين أو ثلاثة أيام، سنجد أن نصف الجزرة التي وضعناها في الماء والسكر قد تحولت إلى مُربّى، كما سنجد أن نصف الجزرة الآخر الذي وضعناه في الماء والملح قد تحوّل إلى مُخلّل، مع ملاحظة أن الجزرة هي هي، ولكن البيئة التي وضع فيها كل نصف اختلفت، فصنعت من نصف الجزرة الأول مُربّى، ومن النصف الثاني مُخلّل.
الفرق بين تكيف الإنسان وتكيف الحيوان
لو تأملنا في عالم الحيوان، سنجد أن الحيوان في المحيط الذي يعيش فيه يتلون بلون البيئة التي يقطنها، إلى درجة أن يصبح وكأنه جزء منها، وهو يقوم بهذا التمويه ليحافظ على بقائه من جانب، ويحصل على غذائه من جانب آخر، لكن الأمر يختلف تمامًا في عالم الإنسان، فالبيئة هي التي تضفي صبغتها على الإنسان حتى يتكيف مع محيطه الذي يعيش فيه، وقد تؤثر البيئة في الإنسان إلى درجة أن يصبح جزءًا متماهيًا مع البيئة، وليس له أي شخصية مستقلة، وإنما يصبح عبارة عن نسخة مكررة مثلها مثل آلاف وربما ملايين النسخ التي امتصّت من البيئة المحيطة كل مكوناتها، فتشكلت على ضوء ذلك ملامحها، ومثل هذه البيئات تشبه مصانع الطوب (البُلُك) التي تننتج بُلكًا متشابهًا، مقاس 20 سم، أو 15 سم، أو 10 سم، وأحيانًا يكون هذا البلك مخرقًا وأحيانًا يكون مصمتًا، ولكنه في نهاية المطاف متشابه تمامًا، وهذا أمر لا يليق بالإنسان طبعًا، فهو ليس جمادًا ليتم تشكيله في قوالب كما هو الشأن مع البُلك، وإنما هو جسم وروح، وصدق ذلك الشاعر حين قال:
“وضعوني في إناء ثم قالوا لي تأقلم
وأنا لست بماء أنا من طين السماء
وإذا ضاق إنائي بنموي يتحطم”.
تعرف على: تأثير الإنترنت على العلاقات الأسرية
أيهما أكثر تأثيراً في تشكيل شخصية الطفل
إن السبب في مشاعر الإحباط وخيبة الأمل لدى كثير من المربين هو عدم إدراكهم للأثر الضخم الذي تتركه البيئة المحيطة في نفوس الناشئة، وضآلة أثر رسائلهم التربوية الخاصة إلى جانب الرسالة التي ترسلها البيئة، فعلى حين تبدو رسائل البيئة المحيطة مؤثرة تأثيرًا بالغًا، تبدو رسائلهم قليلة الجدوى، إلا أن ذلك ليس على طول الخط، فللمربي وللقريبين من الطفل أثرهم الكبير في شخصية الطفل.
وقع شبه إجماع بين علماء النفس، وفق تأكيد الدكتور عبد الكريم بكار، على أن تعرّف الطفل على ذاته يتم عبر التفاعل مع أبويه وإخوته وجيرانه وزملائه وأصدقائه…، إن الطفل كثيرًا ما يتخذ من أبويه مثلًا أعلى، ثم يبدأ بتقليد ذلك المثل في سلوكه ورؤيته للحياة وفي مشاعره وردود أفعاله، وعلى المربي أن يتذكر دائمًا أنه الطرف الناضج، إذا أراد لتربيته أن تثمر.
كما تؤكد بعض الدراسات أن البيئة المدرسية الجيدة تمكِّن الدماغ من زيادة الارتباطات الدماغية بنسبة 20 %، وأن المجتمع المدرسي السلبي يقلل من قدرة الدماغ على إنتاج الارتباطات بنسبة 20 % كذلك. ولذا على المؤسسات التعليمية أن تجعل من نفسها البيئة النموذجية لتجسيد ما تقدمه من مثل وقيم لطلابها.
جان بياجيه ونظريته في التعلم
يرى “بياجيه” المربي السويسري، ورائد نظرية النمو العقلي في السلوك الأخلاقي، أن كثيرًا من المفاهيم مثل الذكاء والتفكير، والوعي والقيم والتوقع تعود إلى تأثير البيئة على الإنسان، الذي هو محكوم بمدى وعيه بها، وهو وعي يمر في مراحل ارتقائية مختلفة. وأن السلوك الأخلاقي هو تفاعل الفرد مع بيئته أو عمل الفرد في البيئة وعمل البيئة في الفرد.
إن ما نقوله للناشئة، لا يستوعبونه على نحو مباشر، وإنما يمر بعملية ترميز تقوم بها البيئة المحيطة، ولهذا فلا يصح أن يكون عمل الأُسر إطفاء الحرائق على نحو مستمر، وإنما المطلوب دائمًا توفير بيئة تساعد الصغار على أن يكونوا أصحاء نفسيًا وجسديًا.
هذا بدوره يعني أن الطفل أشبه بطبخة ما زالت قيد الإنضاج، فهي تقبل الماء والملح والمنكِّهات…، ومن هنا فإن تغيير الظروف التي يعيش فيها الطفل، أو تغيير الخطاب الذي نوجهه إليه سيساعده على إعادة اكتشاف ذاته وقدراته، وسيزيد من مقدار ثقته بنفسه، فالطفل مشروع تحت الإنجاز، والتربية عروج بالطفل إلى مرتبة إنسان، والبيئة الجيدة لا توجِد الموهبة لكنها تسمح لها بالظهور.
البيئة وأثرها في تربية الطفل
إن من طبيعة الطلاب –وهكذا كل الناس– أنهم يميلون إلى الانضباط والتحرك باحترام إذا شعروا أنهم في مدرسة منضبطة ومحترمة، ويميلون إلى الفوضى وقلة الاحتشام إذا شعروا أنهم في مدرسة فوضوية وتفتقر إلى التهذيب، وهذا ما يلاحظه من سافر إلى خارج اليمن، إذ يجد أن اليمنيين أكثر انضباطًا والتزامًا بالنظام والقانون إذا كانوا في البلد الذي سافروا إليه، فإذا عادوا إلى اليمن عادوا إلى سالف عهدهم، وهذا يعني أن الجهد الذي يبذل في بناء البيئة الجيدة، يظل يعطي ثماره مدة طويلة.
إننا فعلا نرسم من خلال سلوكنا اليومي مستقبل سلوك أبنائنا، بل إن الأمر يتجاوز ذلك؛ إننا من خلال البيئة داخل المنزل نعرِّف الطفل على ذاته، ونصنع نوعية طموحاته وتطلعاته نحو المستقبل، كما نحدد سقف تلك التطلعات وعتبتها، أي أقصى ما يريده الطفل، وأدنى ما يمكن الرضا به.
مقالات ذات صلة:
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
*************
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا